عبدالمحسن بن علي المطلق
كذا وصف كتاب الله مكة، أي ليس فيها ما يجذب مكانا مما اعتاده الناس عنه بحثاً، فهذا وجه مما عطف إليه الشاعر ثناء على الأندلس.. من أنها (ماء، وخضرة وأنهار وأشجار)، بل قال وهو معذور:
ما أظن جنة الدنيا إلا في دياركم
ولو خيرت..؟ لكنت اختار
ثم لدعاء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، أن كان الحج مما عهد قبل الإسلام، واستجابة لتلكم لجعل {أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (37) سورة إبراهيم، فهم -العرب- قبل الإسلام عهد في جاهليتهم الحج إلى البيت الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام في مكة، وتلكم الاستجابة جعلت «أبرهة بن الصباح الأشرم» ملك اليمن.. من قبل أصحمة النجاشي، ليبني كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو أربعين سنة أو أقدم، محاولا حمل العرب على الحج إليها... فلما لم ينجح في محاولته اعتزم أن يهدم الكعبة، فقصدها على رأس جيش ممتطياً صهوة «فيل» له، فرده الله عنها، ولم يبلغ مراده منها - وتدبر سورة الفيل -.
وجاء الإسلام جعل هذا القدوم (الحج) هو ركن منه -آخر أركانه الخمسة-، وهو أشد أركانه تكلفة، لذلك أحاطه بكثير من وجوه الإعفاء جرياً على كرم المشرع الحكيم - سبحانه.. في دفع الحرج عن متبع الدين، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : 78]، وقوله: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]، فاشترط له الاستطاعة من صحة ومال، وكره أن يُرهق فيه أحد نفسه ولو تطوعاً وتطلباً لزيادة الأجر، أو تقدم من بعد فيما هي (من جلائل المفارقات) تجدها لها تهفو أفئدتها، مفردها فؤاد (من الفئد، أي اشتعال النار السمرائي رحمه ربه، كناية عن الولع والشوق، كما نجد في تقريب لذاكم من مناظر للمبدع «أحمد شوقي» رحمه الله، في نقل (الصورة) يصف المشهد، قبل التلفاز بعقود:
وركب كإقبال الزمان محجل
كريم الحواشي كابر الخطوات
يسير بأرض أخرجت خير أمة
يفيض عليها اليمن في غدواته
وتحت سماء الوحي والسورات
ويضفي عليها الأمن في الروحات
ووجه تقريب لصدر بيته الأوّل أن كل من قام حظه قيل (أقبلت عليه الدنيا).
فيا أحباب كيف بتلكم البقاع لو احتضنت جنباتها خضرة وسالت الأنهار في جنباتها، أقصد كيف سوف توصف لكن لله حكمة أن تخلو تلكم من المغريات الدنيوية ليمضي العبد إليها ناشداً رضا ربه لا عوالق مع هذا، فكما يُطلب من المصلي الخشوع بالصلاة ليكمل أجره، ويرفد المراد أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - ما رواه مسلم رحمه الله.. قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ يُصَلِّي فِي خَمِيصَةِ ذَاتِ أَعْلَامِ، فَنَظَرَ إِلَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قال: (اذْهَبُوا بهذه الخَمِيصَةِ إِلى أَبِي جَهْمِ بنِ حُذَيْفَةَ، وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيهِ، فَإِنَّهَا الْهَتْنِي آئِفًا في صَلَاتِي)، وذاك أن كل ما يُشغل فإنه قد يساور التقليل من الأجر، وما سعى من أم تلك الديار بماله وجسده وصحته إلا ليناله تاماً تاماً، أي الوعد الذي في حديث... يعود كيوم ولدته أمه)، بربكم أي مطمع بعد تهفو إليه النفوس، وكيف لا تفعل بكل ما أوتيت.. لتحظى بالوعد، وبالمناسبة كم عزيز حمل لقب (حاج).. بعد عودة أحدهم، بل إيثاره لهذا اللقب حتى لو كان يحمل دكتوراه لكن (أو) من بين الحكم الملموسة أنها كذا هو حالها -.. غير ذي زرع - ليقدم الناس، للمكانة لا المكان، وتلبية لعظمة الطالب، سبحانه.. لا المطلب...
فإن أدنى من دقق فلن يجد من معطيات السياحة التي يتوق الناس لها مشرقين ومغربين في تفاضل أن أي الأماكن أكثر متعة، عدا هنا.. ليجعل المرء يحتبس عن قراءة الظاهر، موقفاً أحاسيسه كلها على تمعن الباطن، واستقرأ في المقاصد وهاك دليلاً اسأل من آمن بربه، هل تريد تلكم التي أخذت الأرض من خلالها زخرفها، وشاحت لاستقبال السياح عن زينتها، أم مكة؟، لاستبقت إليك جواباً (دموع) عيونه، فحسبك أن بعضهم يمسك سنوات -سراً- ليتسنى له الدور، وبالذات الأعوام الأخيرة.. حين تيسرت السبل وكثر سهولة المسالك.
فيما تلكم الأماكن ذي الخضرة والماء.. فقط جهز ميزانيك، وانطلق إلى حيث تختار من نكهة..
بل إني لأجزم لو أن أحدهم ليس لديه إلا فرصة واحدة (ولا أقول ميزانية) لا تتكرر، ثم خير بين أجمل البقاع، أو الديار المقدسة، لما انتظرت دقيقة تفكير منه ليجيبك «البيت العتيق.. طبعاً، وهذا ليس وراءه مبالغات.
فمن يتابع ما تقدمه بعض البرامج من نقل حي لمشاعر الحجاج، فسوف يلحظ أن أكثرهم لا تكاد تعي مقاله لاختلاط أحرفه وتهدجاته فضلاً عن دموعه التي تكفيك مؤونة ما يريد قوله، بل إن بعضهم ليحدثك وأعينه سارحة فيما يُشاهد، وانبهار يأخذه لكأنه غير مصدق نفسه أنه بلغها..)..
وعوداً على موضوع الاستطاعة التي وحدها صرح (شرطها) بين أركان الإسلام الخمسة، فقد كانت هذه الفريضة لبعض الديار لا تبلغ (قبل الطائرات بالذات) إلا بشق الأنفس!، حتى سطر التاريخ بعض علماء ما حالهم عن الحج إلا بعد المسافة.. التي قد تأخذ منه أشهراً، وليس أسابيع!
وهنا لافتة مما سيق التعذير له عند الفقهاء بعضهم لبعض، فوفق ما جاء عن (العلماء والحج)، ما ذكره العلم بكر أبوزيد رحمه الله في كتابه: (النظائر) ص 212-213: [كم رأى الناظر في تراجم حملة الشريعة: أن فلاناً منهم لم يحج...!، ومن أعلامهم:
ابن حزم، والبغوي، وأبو إسحاق الشيرازي وابن سيده، ومحمد بن علي الدامغاني، والدولعي، وابن جماعة، والسمرقندي وغيرهم كثير من أهل العلم، مع يسار بعضهم]، ثم قال الشيخ بكر أبوزيد (ولا يمكن أن يقول أحد من أهل الإسلام: إن هذا من باب إيثار العلم على الحج.. وهو ركن من أركان الإسلام)! ثم أشار في الأسباب) أنها متكاثرة والعوارض متواردة، ولكل عذره الذي يعايشه، فهذا معدم، وذاك خائف غير آمن، وآخر بعدت به الشقة،.. أو أعيت به النفقة، وهكذا من عوارض الاستطاعة ووجوه الأعذار..)، هذا عن أمر الخاصة، فكيف بالعذر وعامة الأمة، فهذا تعليل مراعاة لهذه (بعد الشقة) للتابعي سفيان الثوري رحمه الله تعالى: «ليس على نساء خراسان حج»، وقال الذهبي في: «السير» (486/9): «قلت: هذا قول عجيب، أفما هنَّ من الناس، فكأنه لمح بعد الشقة، وكثرة المشقة»...
وجدير ذكره هنا، وليطلع بعض من يُغرقون في ذم عصرنا، أن المفتي سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ المفتي العام حفظه الله، قد حج عن خمسة من العلماء وهم: - ابن حزم.. توفي 456هـ، ابن عبد البر.. توفي 463هـ، - المنذري.. توفي 656هـ، - النووي.. توفي 676هـ، - ابن رجب.. توفي 795هـ، فجزاه الله خير الجزاء، وغفر لهم. أما (اليوم) بفضل الله ففي نفس يوم سفرك تصل، وهذه من عطايا المنان بالأخص لأهل هذا الزمان، وهذه نعمة يسر بلوغ تلكم نقل حيز الاستطاعة إلى خانة أخرى، وهي المساحة.. التي وحدها أمست من تحول، أي ما يمكن أن يحتمله المكان وسبحان الله كيف تتبدل الأعذار فاليوم اختلف الحائل، ففيما سبق كانت التكلفة في المسافة، وقد شرحت، ليحل ضيق المساحة بمكان التعذير) لمن لم يحج، وإلا لكنا شاهدنا وكما تقدم وقد تيسرت السبل وكثرت الخيارات).. أضعافاً مضاعفة! واليوم ها هي دولتنا رعاها ربي قد أكثرت من المشاريع في المشاعر، لغرض أسمى (رفع) طاقة استيعاب المشاعر، واستقبالاً وترحيباً لكل من يأتيها من فج عميق.
وغاية المقاصد منها السعي ليبلغ الحجاج الـ (5) ملايين، والمرام المتمم لهذا وهو لعله الأكبر أن عما قريب ينخفض سقف (سنوات) السرا...
فالجهود التي والحمد الله تزداد عطاءاتها سنة بعد أخرى.. لا تخفى حتى على من رمدت عيناه، أو تأرجح ميزان الإنصاف في أفق نقده، وحسبنا يا بلادي من هذا الفصيل الأخير آية {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (13) سورة سبا.. عزاء، لما يبذل وقلماً يُشكر..
صحيح أن قيادتنا لا تنظر أو حتى تنتظر شكراً، لكن لا أقل من كفكفة الذم، أو رأيت قصوراً فعذر، وإياك أخي المسلم ألا ترى إلا بعين واحدة، فكل مجتهد له نصيب من جهده وإن قل فما البال والمشاهد لا تستغرق أقاصيه عيون الكميرات التي تتنقل لكل مكان ناقلة ما يسر القلب، وتبهج له العين، كما وأن لكل عمل مقادير ثناء ولو ببعض مما يستحق، وكذا كل صنيع يحمد مهما كان، ف... من تذكرك بعظم أمسيت عنده عظيم) فما لهذه الصنائع وفي طيها الزاهر من المفاخر العظيمة، وتلكم الجسيمة لا تقابل ولو بالصمت، إن استكثر الثناء....
رحم الله حال أقوام وبلادا تشكر على أدنى خير، لأن معدن المتلقي ما زال صافيا، وتقديم الثناء منها وافيا، وهذا لعمري - نحن المسلمين هم أولى بهذه المنقبة، لأن الحق ضالة المؤمن، وصدق الحق {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (13) سورة سبأ، فجعل الشكر فعلاً، فيما نحن إن طمعنا فما يبديه اللسان.. يكفينا..