عايض بن خالد المطيري
قد يكون من السهل أن تصف حدثًا جميلاً بكلمات كبيرة، لكن من الصعب أن تنقل حقيقة مشهد ضخم كالحج دون أن تخونك التفاصيل أو تخذلك اللغة. لذلك، أكتب هذا المقال لا بصفتي متابعًا من بعيد، بل شاهد عيانٍ وقف على الأرض، وسط الحشود، وعاش التجربة بكامل تفاصيلها.
ما رأيته هذا العام في موسم الحج 1446هـ ليس تطورًا عاديًا، بل نقلة نوعية تُحسب للدولة السعودية، وتستحق أن يُقال عنها إنها «هندسة بشرية دقيقة» لا مجال فيها للعشوائية أو المجاملة.
في كل موسم، تبذل الجهات المعنية جهودًا جبارة لتأمين راحة الحجاج وسلامتهم، لكن هذا العام تخطّى حدود المتوقع. صُممت النقاط الأمنية بطريقة مهنية واحترافية تجعل من المستحيل تقريبًا اختراقها. أكثر من نقطة تفتيش على امتداد الطريق، كلٌّ منها أشبه ببوابة تقنية ذكية. لا مكان للتراخي، ولا فرصة للهاربين من التصريح. تُفحص الهوية، وتُطابق بيانات الحاج بشكل فوري باستخدام أحدث تقنيات المسح والتحقق عبر الباركود، وتؤدي الأساور الذكية دورها بصمت لا يقل عن السحر.
ولست هنا أتحدث عن إجراءات ترهيب، بل عن تنظيم محكم لا يترك حتى مجالًا للارتباك. لم نعد نشهد محاولات يائسة من البعض للتحايل باستخدام تأشيرات زيارة أو تصاريح مزيفة. الأمن كان صارمًا ومحترفًا، حازمًا دون تعسف. لم يُسمح لأي مركبة غير مرخصة بالوصول إلى المشاعر، ولا لحاجٍّ غير نظامي أن يضع قدمه داخل الحرم. لقد أعادت الدولة تعريف «المنع لأجل التنظيم»، وأثبتت أن الشدة في موضعها ليست تضييقًا، بل حماية للحجاج النظاميين الذين قطعوا آلاف الكيلومترات لأداء نسكهم بطمأنينة.
المشهد داخل المشاعر فاق التوقعات: لا أحد يفترش الطرقات، لا حجاج يسيرون على الأقدام في الشوارع والممرات، لا ارتباك ولا عشوائية. كل فوج يتحرك في وقته المحدد، في مساره المرسوم، وداخل وسائل نقل مخصصة ومدروسة. قطارات المشاعر تعمل كما لو أنها في ندوة أكاديمية تُدرّس في دقة الأداء، وقائدو الحافلات مدرَّبون إلى درجة تجعل من الرحلة تجربة راقية. تُقاس تحركات الحجاج بالوقت والمسافة، وتُنفَّذ كما لو كانت من إنتاج غرفة عمليات لا تقبل الخطأ.
في يوم التروية، غابت المشاهد التي اعتدنا رؤيتها في المواسم السابقة، من افتراش أو ازدحام مقلق. وعند التصعيد إلى عرفات، كان التفويج قد اكتمل قبل الساعة العاشرة صباحًا، والجميع في مخيماتهم دون تدافع أو تأخير. وجبات ساخنة تصل في وقتها، مياه باردة، أجهزة تكييف، مرافق صحية نظيفة، توفر تقنية الاتصالات، وبنية تحتية تشعرك وكأنك في مجمع خدمات متكامل لا في صحراء خالية.
وحتى خطبة يوم عرفة، التي كانت في الماضي لا يسمعها إلا من أدرك المسجد، باتت تُنقل للمخيمات بكفاءة، عبر شاشات وصوتيات موزعة بشكل مدروس. بعد غروب الشمس، بدأ التفويج إلى مزدلفة، وفي تمام الساعة العاشرة كان الحجاج قد استقروا في أماكنهم، وكل شيء معد لاستقبالهم: الخيام، المياه، المرافق، والمشرفون.
قد يرى البعض أن هذه التفاصيل أمر عادي في بلد يملك الموارد، لكن الحقيقة أن المال وحده لا يصنع النجاح. ما شهدناه هو ثمرة تخطيط طويل، ومتابعة صارمة، وعمل ميداني من الآلاف الذين لا يظهرون على الشاشات ولا تُذكر أسماؤهم. وهنا تحديدًا تتجلى عظمة ما تحقق. التنظيم لم يكن فقط على الورق، بل على الأرض، بين الناس، في كل لحظة.
ومع هذا الإنجاز، تبقى هناك مسؤولية إعلامية ومجتمعية لتسليط الضوء على أهمية النظام، وضرورة احترامه، فحج بلا تصريح ليس بطولة، ولا التحايل على الأنظمة يُعد ذكاءً. بل هو افتئات على حقوق من التزم، وإرباك لمنظومة تعمل بكل طاقتها لخدمة ضيوف الرحمن.
خلاصة الكلام: نجاح حج 1446هـ ليس محض صدفة، بل نتيجة إرادة صادقة، واستثمار طويل في الإنسان والتقنية والتخطيط. ومن قلب المشاعر المقدسة، أقول بكل ثقة: التنظيم ليس فقط هوية سعودية في الحج، بل رسالة حضارية للعالم بأسره.