مشعل الحارثي
منذ حجة الوداع الأولى والأخيرة في حياة نبي الأمة محمد بن عبد الله - عليه أفضل الصلاة والسلام - التي قاد فيها موكب الحجيج وأبان فيها كل معالم الدين وأسس الشريعة الإسلامية السمحة، فقد حرص الخلفاء الراشدون على الحج بالناس في عهود خلافتهم، وحافظوا على هذا النهج المحمدي في قيادة الحجيج لما فيه من بث روح الأمن والطمأنينة بين الناس، والوقوف على احتياجات الأماكن المقدسة، والتسهيل على الحجيج لأداء نسكهم بكل يسر وسهولة حتى أصبح أمراً متوارثاً لحكام وولاة الدولة الإسلامية منذ خاتمة الرسالة المحمدية وحتى عهدنا الحاضر.
ومن مطالعات تحولات الحج بين الماضي والحاضر وكما رصدها العلماء والفقهاء في كتبهم المرجعية عبر العصور ككتاب المقريزي (الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك) وكتاب (الكامل) لابن الأثير، و(تاريخ الطبري) و(الأزرقي)، و(البداية والنهاية لابن كثير) وكتب الرحالة وغيرهم، سنجد الشيء الكثير من صور هذه القيادة للحجيج والاهتمام بالحرمين الشريفين إلى جانب الكثير من الأحداث والمواقف والمواعظ والعبر والطرائف والغرائب.
فأبوبكر الصديق - رضي الله عنه - حج بالناس سنة (12هـ) واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، وحج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالناس (9) سنين متوالية، واعتمر في شهر رجب من سنه (17هـ) وبنى المسجد الحـرام ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا دورهم وعوضهم أثمانها من بيت المال، وجدد أنصاب الحرم، وكانت آخر حجة حجها عمر سنة (23هـ) وهي التي توفى فيها شهيداً - رضي الله عنه -، وحج عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بالناس جميع سنوات خلافته إلا السنة الأخيرة وقيل حج في السنة الأولى عبد الرحمن بن عوف بأمره، وأما علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - فلم يحج في خلافته لاشتغاله بحرب الجمل وصفين، وحج معاوية بن أبي سفيان بالناس عدة سنين أولها سنة (44) وتخلف سنة (45)، فحج فيها مروان بن الحكم، ثم حج سنة (50) وقيل بل حج ابنه يزيد وقيل إنه حج أكثر من ذلك، وحج عبد الله بن الزبير بالناس (8) حجج وعندما بويع له بالخلافة وبدأ الحجاج بن يوسف الثقفي بحصاره غرة ذي الحجة من سنة (72 هـ )، فحج بالناس ووقف على عرفة وعليه درع ومغفر ولم يطوفوا بالبيت في تلك السنة إلى أن قتل ابن الزبير، وفي عام (75 هـ ) حج عبد الملك بن مروان في خلافته بالناس سنتين، ثم حج الوليد بن عبد الملك بالناس عام (91 هـ ) وهو الذي عمر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عهد واليه على المدينة عمر بن العزيز، وكتب اليه أن يدخل حجر الأزواج المطهرات في المسجد وأن يشترى ما في النواحي حتى يكون مئتي ذراع في مثلها، وأن يقدم القبلة فقوم عمر الأملاك قيمة عدل وأعطى الناس أثمانها. كما كتب إليه أيضا أن يسهل الثنايا ويحفر الآبار ويصل الفوارة بالمدينة فعملها عمر بن عبد العزيز وأجرى ماءها.
وفي سنة (97 هـ) حج سليمان بن عبد الملك بالناس، وحج بعده هشام بن عبد الملك سنة (106 هـ)، ثم جاءت الدولة العباسية وحج منهم أبو جعفر المنصور سنة (140 هـ) وسنة (144 هـ)، وسنة (147 هـ)، وسنة (148 هـ)، وسنة (152 هـ)، وسنة (158 هـ) وكانت آخر حجة له مات بها وهو محرم في الطريق إلى الحج في بئر ميمون خارج مكة.
ثم حج أبو عبد الله المهدى ثالث خلفاء بني العباس سنة (160 هـ)، وعندما قدم إلى مكة نزع الكسوة عن الكعبة التي كانت عليها لأن السدنة أخبروه أنهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الكساوي.. حيث كانت الكسوة لا تنزع عنها ويضعون الجديد على سابقه وكان الناس في الجاهلية يكسونها بالأنطاع، وكساها النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام - بالثياب اليمانية، وكساها عمر بالقباطي أي القماش المصنوع بأيدي الأقباط.. أما معاوية فقد كساها كسوتين بالديباج يوم عاشوراء والقباطي في آخر رمضان، وكان المهدى أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة، وحج هارون الرشيد (9) حجج وأولها كانت سنة (170 هـ )، وفي سنة (179 هـ ) أقام بالمدينة المنورة إلى وقت الحج ثم حج بالناس ماشياً، وكان إذا حج يحج معه (100) من الفقهاء، والسنة التي لا يحج فيها يحجج (300) على نفقته، ولم يحج بعد هارون الرشيد خليفة عباسي من خلفاء بغداد، أما العباسيون في مصر على كثرتهم فلم يحج منهم إلا الحاكم بأمر الله العباسي ثاني الخلفاء العباسيين بالقاهرة سنة (697 هـ )، وهو غير الحاكم بأمر الله الفاطمي، أما الخلفاء في الأندلس والفاطميون في المغرب ومصر فلم يحج منهم أحد؟! وحج من المماليك جمع كثير ولهم مواقف محمودة في ذلك مع الحج والحجيج.
وأما في عهد الحكم العثماني فقد كان لهم جهودهم واهتماماتهم الكبيرة بتنظيم قوافل الحجيج، فعهدت إلى والي الشام بقيادة الحجيج وتأمين طرق الحج وحفر الآبار وبناء الخانات على الطرق، كما اهتمت بنقل كسوة الكعبة سنوياً في المحمل من القاهرة إلى مكة المكرمة.
وعبر أدوارها المختلفة كان للدولة السعودية الأولى والثانية اهتمامها الكبير بهذا الجانب، إلا أن الدور البارز والكبير في الاهتمام برعاية شئون الحج والحجيج اتضح مع قيام الدولة السعودية الثالثة على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - ثم عهد أبنائه الملوك من بعده سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبدالله - رحمهم الله -، ثم خادم الحرمين سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله وأبقاه - وسمو ولي عهده الأمين، فعلى مدار أكثر من قرن من الزمان لم يتخلف من ملوك المملكة أحد في تولي قيادة الحجيج والإشراف المباشر عليهم بعد أن جعلوا من خدمة الحرمين الشريفين ورعاية شؤون الحج والحجيج أهم أولوياتهم، بل تم استحدث وزارة مستقلة تعنى بشؤون (الحج والحجيج والعمرة) منذ عام 1365 هـ أي منذ أكثر من ثمانية عقود، ووضعت كافة إمكانياتها وطاقاتها البشرية والمادية للمساهمة في تخفيف أعباء أداء هذه الشعائر وتيسيرها على المسلمين، ووقايتهم من كل أذى وتوفير كل سبل الراحة لهم بما بذلته من جهود جبارة ونفذته من مشروعات ضخمة رصدت لها المليارات من الريالات السعودية سنوياً، وهو ما انعكس عملياً في النجاحات السنوية التي تحصدها ومن حسن التنظيم، والدقة في إدارة الحشود، واستخدام التقنيات الحديثة لتتحول المشاعر المقدسة وفي أيام معدودات إلى مدن متكاملة تعج بكافة متطلبات الحياة وصولاً لجعل رحلة الحج تجربة فريدة ورحلة إيمانية وروحية عظيمة في حياة المسلم.
أسال الله - عز وجل - أن يحفظ لنا قائدنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين، وأن يجزيهم خير الجزاء على ما يبذلونه من جهود للإسلام والمسلمين وخدمة الحرمين الشريفين، كما أسأله - جل في علاه - أن يوفق كل العاملين في خدمة ضيوف الرحمن لأداء مناسكهم على خير وجه وأن يردهم والحجيج لذويهم سالمين غانمين.