منصور بن صالح العُمري
في كل عام، ومع طلائع شهر ذي الحجة، تتوجه أنظار العالم الإسلامي نحو مكة المكرمة، حيث تتكرر أعظم فعالية إيمانية يشهدها التاريخ الإنساني، لا تُضاهيها مؤتمرات، ولا يُقاس بها أي حشد بشري آخر. يتوافد الناس من كل مدن العالم وقراه إلى أم القرى وأم المدائن. إنّه الحج؛ الركن الخامس من أركان الإسلام، والموسم الذي يجتمع فيه ما تفرّق من لغات وثقافات وأعمار وتجارب.
ومع ضخامة هذا المشهد، وتعقيده اللوجستي الهائل، يبرز دور المملكة العربية السعودية بوصفها الدولة المضيفة والمنظمة والمسؤولة عن إدارة هذا الحدث العالمي الفريد.
جهدٌ لا يعرف التوقف، وعمل لا ينتظر المديح، وبذل يسبق الموسم ولا ينتهي بانقضائه. يُقدَّم على غيره فلا يؤخّر له اعتماد، ولا يُستكثر عليه إنفاق.
ليس سهلاً أن تُدير حركة أكثر من مليونَي حاج في أيام معدودة، يتنقلون بين المشاعر المقدسة وفق مواعيد شرعية محددة، في أماكن لا تقبل التوسعة إلا بحساب، وضمن زمن لا يقبل التأخير.
ومع ذلك، تنجح المملكة في كل عام، لا في إدارة الحشود فحسب، بل في إخراج صورة الحج بأبهى مظهر تنظيمي وإنساني وروحي، متحدّيةً صعوبات الظروف، وتنوع البشر، وتباين ثقافاتهم وتعدد لغاتهم، وضيق المساحة، وقصر الزمن.
هذه المهمة ليست ظرفًا طارئًا، بل مشروع دولة كامل، يبدأ التخطيط له منذ إسدال ستار الموسم السابق، ويستمر بلا توقف حتى تتنفس مكة سكينة الختام.
المملكة لا توفّر للحجاج خدمات أساسية فقط، بل تقدم منظومة متكاملة من الرعاية تبدأ من الاستقبال، مرورًا بالإعاشة، والسكن، والتنقل، والتفويج، وانتهاءً بأعلى درجات الرعاية الطبية والأمنية والتنظيمية:
- توسعات الحرم المستمرة التي تستوعب الملايين، وتستهلك المليارات من الريالات.
- قطار المشاعر الذي ينقل الحجيج بسلاسة وأمان.
- الخيام المكيّفة في منى وعرفات ومزدلفة.
- فرق الإسعاف والطوارئ والطب الميداني المنتشرة على مدار الساعة، مزوّدة بالمستشفيات الميدانية الحديثة المتكاملة.
- أنظمة التفويج الذكية، وتطبيقات الإرشاد، وخدمات الترجمة.
- عربات التنقل الخفيفة (الجولف) والعربات الكهربائية في كل موقع يحتاج الحجاج إليها في الجمرات والطواف والسعي.
كل ذلك يتم بإنفاق سخيّ لا يُشهر، وبتفانٍ إداري لا يُطلب له ثناء، وإنما هو نية صادقة لخدمة ضيوف الرحمن، وتقديم صورة مشرّفة لخدمة الإسلام والمسلمين.
ما يميّز الحج ليس فقط دقة التنظيم، بل إن التنظيم نفسه موجّه للإنسان، لا على حسابه.
الحاج هنا لا يُعامل كرقم، بل كزائر مُكرّم، له حق الرعاية والرحمة والاحترام، من لحظة وصوله إلى لحظة مغادرته.
رجال الأمن يُرشدونه بابتسامة، والعامل يخدمه برفق، والطبيب يُسعفه وكأنه فرد من عائلته.
هكذا تبدو المملكة: خادمةً للحج، لا حاكمةً له، ولا تنظر إليه كموسم استثماري، بل موسم إنفاق وبذل وجهد لا يعرف التواني ولا يقبل التأخير.
ولا تكتمل الصورة البهيّة لخدمة ضيوف الرحمن دون الإشارة إلى الدور الجليل الذي يضطلع به القطاع الخيري غير الربحي، الذي يساند جهود الدولة بكل إخلاص وسخاء، بعيدًا عن الأضواء، قريبًا من الحجيج.
مؤسسات وجمعيات أهلية، يعمل فيها آلاف المتطوعين والمتخصصين، يقدّمون خدمات السقاية والإطعام والإرشاد والتوجيه والرعاية الإنسانية بلا مقابل، بل بروحٍ من البذل النديّ، وبأريحية تشعر الحاج وكأنه ضيف مُكرّم في بيته، لا غريب في طريق.
من توزيع الوجبات، إلى توفير المياه والمظلات، إلى خدمات الترجمة، إلى إيواء التائهين، والعناية بالمرضى وكبار السن، ومساعدة ذوي الاحتياجات، والتوجيه الشرعي، كل ذلك ينبض بالحب والتطوع والنية الصادقة.
إنه تلاحم يندر مثيله بين الدولة والمجتمع، تتضافر فيه السواعد، وتتوحد فيه النوايا، ويصبّ كله في نهرٍ واحد: «خدمة الحاج وإكرامه وتيسير مناسكه على أتم وجه.»
عامٌ بعد عام.. تتقدم التجربة.
كل موسم حج في السعودية لا يُنسخ عن سابقه، بل يُبنى عليه:
- التحديات تُدرَس.
- الملاحظات تُرصد.
- التحسينات تُنفذ.
- المقترحات تلقى العناية الفائقة.
وهذا ما يجعل الحج يزداد سلاسة وجمالًا عاماً بعد عام، رغم اتساع الأعداد وتنوع الحشود.
المملكة لا تُكرر نجاحًا فقط، بل تطوره وتنقله إلى مستويات أعلى من الجودة والرحمة والابتكار.
وفي زمنٍ كثر فيه النقد المجاني، وغاب فيه الاعتراف بجميل الجهد، فإن الإنصاف يوجب على كل عاقل أن يشكر هذه الدولة الكريمة، على ما تبذله من جهود جبّارة، وما تُقدمه من خدمات عظيمة في سبيل إنجاح موسم الحج، وخدمة وفود الرحمن.
ولعل أصدق ما يُقال:
«في مكة لا ترى استعراضاً للحضور، بل إخلاص في الحضور.. وفي موسم الحج لا تُمارس سلطة الدولة، بل تتجلّى روح الدولة.»
ختامًا، إنّ المملكة العربية السعودية، وهي تُقيم هذا المشهد المليوني السنوي، تُثبت أنها لا تُدير موسماً.. بل تحمل رسالة، وتؤدي أمانة، وتُجسّد مكانة.
حفظ الله هذا البلد، وجزى أهله وقادته خير الجزاء، وجعل خدمتهم لبيت الله الحرام في موازين أعمالهم.
زاد الله المملكة قيادةً وحكومةً وشعباً عزّاً ورفعة وقدرةً تتنامى.