اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
منذ حقب زمنية والمنطقة العربية تعاني من أحداث متداخلة ومخاطر قاتلة نتيجة لتراكم المشكلات الداخلية والتدخلات الخارجية إلى الحد الذي جعل الوطن العربي ميداناً لشد الأطراف من قبل الكيان الصهيوني وبعض دول الجوار، ومسرحاً لتدخل الأشرار وقوى الاستعمار، طمعا في موقعه الإستراتيجي وخيراته الاقتصادية وثرواته الطبيعية.
والمملكة بفضل مركزها الديني وموقعها الإستراتيجي وثقلها الاقتصادي ووزنها السياسي وتأثيرها القيادي تتعامل مع المواقف المتغيرة والمؤامرات المدبرة بوسطية دينية وحنكة سياسية وحكمة قيادية وكفاءة اقتصادية مع التمسك بانتماءاتها الدينية والوطنية والقومية على النحو الذي يراعي لزوميات الإستراتيجية الشاملة بشقيها الداخلي والخارجي، والمصلحة العليا بجميع أهدافها، بما يدعم الأمن الوطني القُطري لكل دولة عربية والأمن القومي للأمة في زمن السلم ووقت الحرب، بعيداً عن الشعارات الكاذبة والمزايدات والمراهنات الخائبة.
والمملكة منذ تأسيسها وهي ذات سياسة معتدلة ودبلوماسية هادئة وعلاقاتها مع الدول الشقيقة والصديقة متوازنة بصورة عقلانية وواقعية، تحسب لكل أمر حسابه وتضعه في نصابه مع اتقان فن المسافات وتحديد القيود والحدود بما يخدم عناصر القوة الوطنية، وينسجم مع الانتماءات الدينية والوطنية والقومية.
وعلى الصعيد الوطني، فقد خطت المملكة خطوات بعيدة وقطعت مسافات طويلة على طريق النهضة الشاملة والتنمية المستدامة بفضل الأفكار النيرة والجهود المثمرة لرافع الراية وعراب الرؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بإشراف وتوجيه من الملك سلمان، حيث احتلت المملكة مراكز متقدمة في معترك المنافسات العالمية وأصبحت رقماً محسوباً في المعادلة الاقليمية والدولية يشار إلى إنجازاتها بالبنان، ويتغنى بها الركبان وعلى كل لسان، ومن الشواهد على ذلك حيازة قصب السبق والتفوق في مجال الرقمنة والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، علاوة على مكانتها النفطية ومواقفها المنصفة والمشرِّفة في مجال الطاقة أثناء الأزمات وتصادم الرغبات على المستوى العالمي.
وعلى المستوى القومي العربي تحاول قيادة المملكة إيجاد مشروع عربي في المنطقة لمواجهة المشاريع المضادة من خلال الدعوة إلى تصفير المشاكل وتجاوز الخلافات وتفعيل دور الجامعة العربية، بما يوافق المتغيرات والظروف الدولية الراهنة التي تستدعي إصلاح الداخل والاهتمام بالمصالح العليا والتعامل مع الخارج بصورة جماعية وصيغة عملية للتعاون المشترك خارج مناطق النفوذ والاستغلال الخارجي.
وموقف المملكة بالنسبة للقضية الفلسطينية يعتبر موقفاً ثابتاً لا يتغير بوصفها قضية محورية تدافع عنها المملكة في المحافل الدولية، وتقدم لها الدعم المادي والسياسي والمعنوي إلى درجة إن ولي العهد جعل شغله الشاغل معالجة القضية والبحث عن حلٍ لها يرضي الشعب الفلسطيني ويضمن إقامة دولته، عاقداً من أجل ذلك المؤتمرات ومشكلاً في سبيله اللجان.
ورفع العقوبات عن سوريا ودعم حكومتها الجديدة ومحاولة إصلاح الوضع في لبنان والسودان واليمن، كل ذلك يقف شاهداً على حرص المملكة على لم الشمل وترميم البيت العربي الذي تم تدميره من الداخل والخارج على يد العملاء والصهاينة، ولسان المقال وواقع الحال يعتمد على الحكمة التي مفادها بأنه كلما إدلهم الظلام زاد الفجر اقتراباً.
والقيادة الفاعلة وامتلاك السيادة كاملة والسياسة الحكيمة وتوفر مقومات الأمن الوطني القومي المتمثلة في الاستقرار والاستمرار والازدهار، ترتب على ذلك فسح المجال أمام المملكة لإقامة علاقات متوازنة مع مختلف الدول بما في ذلك القوى الكبرى بطريقة متكافئة تعتمد على تبادل المصالح وتخادم المنافع على مختلف الأصعدة الاقتصادية والأمنية والسياسية والتكنولوجية وصولاً إلى الشراكات الاقتصادية والاستثمارات الاستراتيجية ذات المشروع الوطني والموضوع العلني في منأى عن سياسة الاستقطاب والممارسات البعيدة عن الصواب.
ومن المؤلم أنه في هذا العصر الذي تتجه فيه دول العالم إلى التكتل والتقارب لا تزال الأمة العربية تتجه نحو التشرذم والانقسام واختلاق المشكلات والخلافات لتبرير ممارسات خاطئة رغم أن ما يمتلكه العرب من ثروات اقتصادية وطاقات معنوية ومادية ويجمع بينهم من روابط وصلات دينية وثقافية وقومية تتيح لهم الفرص للتضامن والتعاون في سبيل المصلحة المشتركة والمنفعة المتبادلة والأهداف الجامعة.
والشراكات والتحالفات لم تعد مقصورة على أصحاب الانتماء الديني أو القومي وما في حكم ذلك، بل تجاوزتها إلى المصلحة المشتركة أو الهدف المشترك وما يعنيه ذلك من التعاون بين طرفين أو أكثر لتحقيق المصلحة المطلوبة دون أن يكون ذلك على حساب حرية الإرادة والسيادة والأهداف والمصالح الذاتية لكل طرف.
وزيارة الرئيس الأمريكي ترامب للمملكة وعقد قمة سعودية أمريكية وأخرى خليجية أمريكية، وما تم فيها من اتفاقيات وصدر عنها من قرارات ترسم صورة واضحة وجلية من صور الشراكة والتقارب من أجل المصلحة المشتركة بين الطرفين بغية تحقيق غاية منشودة ومصلحة عليا تجمع بينهما طبقاً لما هو متفق عليه ومردوده العاجل والآجل.
وتأتي أهمية الزيارة من أن الزائر رئيس دولة كبرى يرافقه كوكبة من المسؤولين ورجال المال والأعمال وأن هذه الزيارة أول زيارة له خارج بلاده بعد انتخابه، ومما يزيد في أهميتها أنها تمثل ثمرة لعلاقات مميزة تمتد جذورها إلى أكثر من تسعة عقود زمنية، كما تعود الأهمية إلى ما تمخض عن الزيارة من شراكة اقتصادية وإستراتيجية، وما ترتب عليها من اتفاقيات ومذكرات تفاهم وصدر عنها من قرارات تتعلق بالاقتصاد والأمن والصناعة والتكنولوجيا وأمن المعلومات والتعدين والنقل الجوي والطاقة وعلوم الفضاء مع التركيز على توطين القابل للتوطين من الصناعات والتقنيات والاستفادة من التجارب والخبرات.
وكل ما سبق يؤكد أن الشراكة السعودية الأمريكية تشكل حجر الزاوية للأمن الاقليمي وأنها تؤكد على مكانة المملكة في معادلات السياسة الاقليمية والعالمية وخلق ما يمكن أن يطلق عليه شرق أوسط مستقر حيث نجحت المملكة في تجسيد الدور العربي والتمهيد لوجود مشروع يؤكد هذا الدور عن طريق رفع العقوبات عن سوريا واعتراف الرئيس الأمريكي بالحكومة الجديدة والاجتماع مع رئيس هذه الحكومة، كما أثمرت الزيارة عن تعزيز فهم الإدارة الأمريكية وزيادة اطلاعها على قضايا المنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية وما يحدث في غزة ولبنان والسودان واليمن والتحديات والتهديدات الماثلة والمحتملة بالنسبة للمنطقة.
والمملكة لها تطلعاتها التي تنبثق عن رؤيتها وعوامل قوتها الوطنية، متخذة من الشراكة الإستراتيجية وما تنطوي عليه من استثمارات ومصالح مشتركة سلماً تصعد عليه نحو مستقبل واعد يضاعف من إنجازاتها ويرقى إلى مستوى طموحاتها، وعلى الجانب الآخر فإن الإدارة الأمريكية لها حساباتها التي تنطلق من رغبتها في رفع مستوى اقتصادها ورفاهية شعبها والوفاء بوعودها الانتخابية والمحافظة على مكانة أمريكا العالمية وزعامتها الكونية.
وفي الختام، فإن سمو ولي العهد بفضل ما يمتلكه من حصافة وبعد نظر يدرك الوجه الآخر للمصلحة المشتركة حيث إن المخاطر التي تهدد الأمة العربية هي التي تجمع بين دولها برباط المصلحة المشتركة باعتبار الخطر المشترك هو أفضل دافع إلى العمل المشترك.