عبدالوهاب الفايز
على أرض الواقع، هناك العديد من الأمور الملموسة التي تؤكد تطور التجربة السعودية في إدارة الخدمات الأساسية والمساندة، حيث تتطور سنويًا وتكتسب طابعًا احترافيًا يستثمر أحدث التطورات العلمية والتقنية لرفع مستوى الخدمات إلى آفاق جديدة، فنجاح موسم الحج هذا العام لم يأت دون جهد وتعب كبيرين، بل هو ثمرة أشهر من الإعداد والإنفاق الضخم على البنية التحتية، وتطوير وتدريب الموارد البشرية.
من أبرز ملامح تطور التجربة السعودية الإصرار على التطبيق الصارم للأنظمة والتعليمات التي وُضعت لنجاح الحج، فلا مجال للمتلاعبين المندسين المخالفين، أو للمتاجرين الذين لا يردعهم دين أو نظام، وهذا النجاح تحقق بفضل الله ثم بفضل التضحيات والجهود التي يبذلها العاملون في الجهات الأمنية والمدنية، وشعارهم الدائم: أمن وسلامة وراحة الحجاج خط أحمر.
وهذه نعمة وفضل من الله سبحانه وتعالى أن أنعم على السعودية، حكومةً وشعبًا، بخدمة ضيوف الرحمن، منذ توحيد البلاد، كرّست الجهود لهذه المهمة الكبرى؛ فقد أصدر الملك عبدالعزيز، رغم شح الموارد المالية، أمرًا بإلغاء رسوم الحج في رمضان 1371هـ، وكان لهذا القرار صدى واسع في العالم الإسلامي.
النهج السعودي تطور عبر السنين، ففي أيام معدودات، أصبحت خدمة الحجاج تتكامل وتتوسع، وتجمع بين الإنفاق المالي الضخم، والتنظيم المتقن، والعطاء الإنساني لتوفير تجربة حج آمنة ومريحة.
بالطبع، نواجه أحيانًا انتقادات تتهم المملكة بالتقصير، لكنها غالبًا صادرة من أفراد لا يمثلون دولهم أو مجتمعاتهم، والمهم أن معظم الناس ترى الحقائق والأرقام على أرض الواقع، والتي تؤكد التزام المملكة الراسخ بخدمة الحجاج وتطوير التجربة الوطنية.
والأمر النوعي هذا العام تطبيق مبدأ «لا حج بلا تصريح»، والحزم في إدارة الحشود، فعلى صعيد التنظيم، واصل هذا النظام دوره في ضبط أعداد الحجاج وضمان أمنهم، حيث مُنع أكثر من مئتين وتسعة وستين ألف مخالف، وفُرضت غرامات تصل إلى عشرين ألف ريال، مع حظر الدخول لخمس سنوات. وساعد هذا النظام على منع التكدس والافتراش الذي كان يسيء للحج، مما قلل الحوادث المرتبطة بالزحام، وأتاح توزيعًا عادلًا للخدمات.
مبادرة «لا حج بلا تصريح» ستوفر الطمأنينة والراحة، وتجعل الحج رحلة إيمانية عظيمة، فمن نعم الله أن جعل الحج مرة واحدة ولمن استطاع إليه سبيلًا. والرحلة المطمئنة تساعد على تحقيق الأمر الإلهي: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، فالحج يجب أن يكون بيُسر وطمأنينة.
كذلك، أصبح النهج السعودي تعاونيا تشاركيًا يجمع جهود القطاعات الحكومية، والخاصة، والأهلية الخيرية، والأوقاف.
خدمات الأوقاف المرتبطة بالحرمين تميّز بها المسلمون عبر تاريخهم، لذا تبذل الحكومة السعودية جهودًا مكثفة لجمع أصول الأوقاف وإعادة تأهيلها واستثمارها، خاصة الأوقاف المجهولة، لينتفع أصحابها بأجرها. والحصة الأكبر من إنفاق الأوقاف تأتي الآن من أوقاف السعوديين المشروطة لخدمة ضيوف الحرمين الشريفين، حيث تتيح الحكومة الفرصة - عبر برامج المشاركة المجتمعية - لتقديم الخدمات المساندة، تحقيقًا للمتطلبات الشرعية للأوقاف وتعظيمًا لأجر الواقفين.
كذلك تحرص التجربة السعودية على استثمار روح العطاء لدى الشعب السعودي من خلال تفعيل القطاع غير الربحي، حيث يشارك آلاف المتطوعين في تقديم الإرشاد، توزيع الطعام، ومساعدة كبار السن. مبادرات مثل «تحدي ابتكار القطاع غير الربحي» و»جائزة التميز في خدمة ضيوف الرحمن» تحفز المنظمات الأهلية على تقديم خدمات مبتكرة، مما يعزز تجربة الحجاج.
ومن صور الحفاوة الرائعة للشعب السعودي في حج هذا العام، الحضور القوي لشباب (جمعية الكشافة السعودية). سُعدنا بهذه العودة المتميزة التي تبشر بمسار تربوي وطني مهم.
شكرًا لوزارة التعليم على هذه الخطوة. في هذا الحج، شارك قرابة خمسة آلاف من الكشافة وثلاثمئة وخمس وخمسون من الفتيات، في إرشاد الحجاج التائهين، إدارة الحشود، ودعم خدمات الأمن والصحة، والأجمل أن هؤلاء الشباب قدموا من جميع مناطق المملكة، وهذه رسالة وطنية تعكس عمق الوحدة الوطنية، وحرص الحكومة على تربية الشباب على الاعتزاز والفخر بخدمة الحجاج، هذه من أجمل مسارات التربية على الإحسان للأجيال الجديدة.
وفي جبهة مهمة، تطورت التجربة السعودية لاستثمار البيئة الرقمية.
شهد هذا العام العديد من القفزات النوعية في الخدمات الرقمية التي ساهمت في تطوير التنظيم والإدارة.
سجلت شبكة stc في مشعر عرفات أداءً قياسيًا، مع ارتفاع حركة البيانات بنسبة أربعين بالمئة مقارنة بالعام الماضي، وزيادة حركة الجيل الخامس بأكثر من ثمانية وتسعين بالمئة، كما تحسنت مؤشرات أداء الجيل الخامس بنسبة أربعة وستين بالمئة، وارتفعت السرعات بنسبة ثلاثة وعشرين بالمئة.
هذا الأداء يعكس نجاح استعدادات stc المبكرة، واستثماراتها في تعزيز البنية التحتية، عبر توسيع تغطية الجيل الخامس، وتفعيل تقنية VoLTE لضمان جودة الاتصالات. كما دعمت الشبكة بوجود أكثر من ثمانين عربة اتصالات متنقلة وألف نقطة وصول Wi-Fi، مما أسهم في تقديم تجربة رقمية متميزة لضيوف الرحمن ودعم الجهات الخدمية خلال الموسم.
وتطور تشغيل شبكة الجيل الخامس في كامل المشاعر المقدسة، من جميع الشركات، أتاح سرعة التواصل بين الحجاج، وسهّل تشغيل التطبيقات الذكية، وأتاح مراقبة دقيقة لحركة الحشود، كذلك تم إطلاق منظومة متطورة من الكاميرات الذكية، والطائرات المسيرة المزودة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لمتابعة التجمعات، مما أسهم في تحسين إدارة الحشود وتقليل زمن الاستجابة للطوارئ.
أيضا تطورت الخدمات داخل الحرم المكي، ففي صحن الطواف، دخل نظام التبريد المركزي العملاق حيز التنفيذ، بطاقة تبريد تبلغ مئة وخمسة وخمسين ألف طن، مما خفف من حرارة الصيف، كما دُشن تطبيق «مناسك»، الذي قدم ترجمة فورية للخطبة بلغة الحاج، بما يزيد عن خمس وثلاثين لغة، في سابقة هي الأولى من نوعها، بما يجسد العناية بكل حاج أينما كان، كذلك ساهم إدخال التأشيرات الإلكترونية عبر منصة «نسك» في رفع كفاءة ودقة التخطيط المسبق، مما أثمر في تقليل أوقات الانتظار، وتحسين التنقل بين المشاعر عبر قطار المشاعر والحافلات الترددية المكيفة.
كما ذكرنا سابقاً، هذه الجهود تواجه أحيانًا انتقادات تتهم المملكة بالتقصير في خدمة الحجاج، لكن هذه الاتهامات غالبًا ما تفتقر إلى الأدلة أو تتجاهل التحديات اللوجستية الهائلة لاستضافة ملايين الحجاج سنويًا، على سبيل المثال، يروج بعضهم على منصات مثل X أرقامًا مبالغًا فيها، يزعمون أن الإيرادات تفوق تكلفة الخدمات المقدمة، لكن الحقيقة أن الإنفاق الحكومي على خدمات النقل، والرعاية الصحية، والإسكان، والأمن، والذي بلغ ستة عشر مليار ريال في عام 2024، يتجاوز بكثير الإيرادات المباشرة، مما يعكس أن خدمة الحجاج هي مسؤولية دينية وشرف وطني، وليست هدفًا ربحيًا.
لقد استثمرت المملكة مليارات الريالات في مشاريع طويلة الأجل، مثل توسعة المسجد الحرام بما يقارب مئة مليار ريال، وغيرها من مشاريع البنية الأساسية مثل نظام النقل المتطور، بما في ذلك الحافلات المكيفة وقطار المشاعر، كما تُقدم الخدمات الصحية المجانية من خلال مراكز طبية مؤقتة ومروحيات إسعاف، لتوفير رعاية فورية للحالات الطارئة، مما يعزز شعور الحجاج بالأمان.
ستستمر التجربة السعودية في تطوير الإنجازات التي تساهم في نجاح موسم الحج، مع مواصلة تحسين البنية التحتية وتوسيعها بأعلى معايير الجودة.