د.عبدالرحيم محمود جاموس
في خضم مشهد الحرب الإسرائيلية المفتوحة على قطاع غزة، يبرز تساؤل جوهري لا بد من التوقف عنده: هل كانت عملية (طوفان الأقصى)، أحد التروس التي ساهمت في تسريع تنفيذ رؤية اليمين الصهيوني المتطرف، الساعية إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائيًا؟ وهل أتاحت هذه اللحظة الدموية النادرة الفرصة التاريخية لنتنياهو ليعيد تشكيل الخارطة السياسية والأمنية وفق خياله التوراتي؟
إن اختزال الصراع الجاري في شخص بنيامين نتنياهو يُعد قراءة سطحية ومضلّلة للمشهد؛ فالرجل لا يتحرك كسياسي مأزوم فحسب، بل كقائد عقائدي، تغذيه نصوص توراتية يعتبرها تفويضًا دينيًا لإبادة الفلسطينيين وطردهم من الأرض، في تكرار استعلائي لأساطير «يشوع بن نون» و»مملكة داوود».
هذه العقيدة لا تتقاطع مع نزعات فردية أو مصالح مرحلية، بل تشكّل جوهر المشروع الصهيوني منذ نشأته، وتجد اليوم في حكومة اليمين المتطرف التي يقودها نتنياهو بيئتها التنفيذية المثالية.
في هذا السياق، جاءت عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر 2023 لتشكل منعطفًا تاريخيًا، ولكن من زاويتين متناقضتين: من جهة، أظهرت هشاشة الردع الإسرائيلي، ومن جهة أخرى، قدّمت لنتنياهو الذريعة الذهبية لتوسيع الحرب، وتبرير سياسة الأرض المحروقة بحق غزة وسكانها.
المفارقة أن هذه العملية، التي وُصفت بأنها انتصار تكتيكي، أصبحت ذريعة استراتيجية لدى إسرائيل لدفن حل الدولتين، وإعادة تعريف الصراع بعيدًا عن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وتحويله إلى معركة بقاء «يهودية» في وجه «البرابرة»، كما يروّج الخطاب الصهيوني المتطرف.
ما يغيب عن كثير من التحليلات، أن الانقسام الفلسطيني منذ عام 2007، الذي قاد إلى سيطرة حماس على قطاع غزة، لم يكن مجرد انحراف سياسي، بل شكّل ثغرة خطيرة في المشروع الوطني. تقارير إسرائيلية متعددة، منها ما نشرته صحيفة هآرتس عام 2019، أكدت أن حكومات نتنياهو غضّت الطرف عن دعم مالي ولوجستي لحماس، لكونها «أداة تفصل غزة عن الضفة الغربية وتُضعف السلطة الفلسطينية»، مما يسهل التعامل مع «كيان معادٍ صغير يمكن عزله أو تدميره»، كما جاء في وثائق سرية تم تسريبها حينها.
اليوم، وبعد مرور ثمانية عشر شهرًا على هذه الحرب، لم يعد الحديث يدور عن حل سياسي أو مفاوضات سلام، بل عن «من يحكم غزة» و»كيف يُنقل سكانها»، في سياق خطة صهيونية أوسع لإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية. كل هذا يجري في ظل صمت دولي وتواطؤ إقليمي، وغياب مقاومة موحدة يمكنها مواجهة هذا المسار. فالمقاومة التي لا تتكئ على وحدة وطنية ولا رؤية استراتيجية، تُختطف بسهولة وتُوظّف خارجيًا ضد مصلحة شعبها.
إن المأساة الحقيقية تكمن في أن العدو الصهيوني نجح، بفعل توازنات داخلية فلسطينية مختلّة، في تصوير الصراع وكأنه مع «كيان إرهابي» في غزة، وليس مع شعب يرزح تحت احتلال استيطاني إحلالي.
وإن استمرار غياب المشروع الوطني الجامع، سيجعل من كل مواجهة - مهما كانت بطولية - مجرد محطة جديدة في مسار تصفية القضية الفلسطينية.
لم يعد الوقت يسمح بمزيد من المكابرة أو الانتظار. فالمطلوب اليوم العودة إلى مشروع تحرري وطني شامل، يعيد ترتيب البيت الفلسطيني على قاعدة الشراكة السياسية، ويستعيد البوصلة نحو هدف واضح:
تحرير الأرض، واستعادة الحقوق، ومواجهة المشروع الصهيوني بمنطق استراتيجي جامع، لا بخطابات معزولة وقرارات فردية.