د. محمد بن أحمد غروي
يمثّل الدين في الأرخبيل ركنًا رئيسيًا في حياة الأفراد -إذا ما قورِن بالمجتمعات الغربية- منصهرًا في أعراف وتقاليد المجتمعات، ويمكن لأي زائر أن يلحظ المظاهر الدينية المتنوعة في الحياة اليومية لشعوب دول جنوب شرق آسيا، خصوصًا الدين الإسلامي الذي له أثر بارز في ثقافات وعادات شعوب دول إندونيسيا وماليزيا وبروناي، إذ يدين أغلبية السكان بالإسلام، ففي إندونيسيا بلغ عدد المسلمين حوالي 242 مليون نسمة، أي ما يقارب 87% من سكانها، بينما تمثل نسبة المسلمين في ماليزيا حوالي 63.5%، أي ما يزيد على 20 مليون مسلم، وفي بروناي يشكّل المسلمون 82% من السكان، وهو الدين الرسمي للسلطنة.
ترى الثقافة الإندونيسية في الإسلام ليس مجرد دين، بل أيضًا نظامًا أثّر على التقاليد المحلية وتكيّف معها، كما تُظهر الدراسات الميدانية أن الفن والثقافة الإسلاميين قد ساهما بشكل كبير في إثراء الثقافة الإندونيسية، تُرجِم ذلك في جوانب عديدة كالفن المعماري بأشكاله الفريدة، من المساجد والمقابر وغيرها من المباني ذات الأنماط المعمارية الإسلامية، ويُعدّ الخط أيضًا جزءًا مهمًا من الفن الإسلامي في إندونيسيا، بكتاباته العربية الجميلة ومعانيه العميقة.
ويلعب الدين أيضًا دورًا مهمًا في الهوية الثقافية والاجتماعية للمجتمع الماليزي، وله تأثير كبير على حياتهم، سواء في مجال التعليم والقانون والحياة اليومية، كما شكّل الإسلام المشهد الاجتماعي برمّته في ماليزيا بشكل كبير، ولاسيّما بين سكان الملايو، فهو عنصر أساسي في الثقافة الملايوية، إذ أثّر على مختلف جوانب الحياة، من الممارسات والمعتقدات اليومية إلى البُنى الاجتماعية والأنظمة القانونية.
ويمتد تأثير الإسلام إلى التكيّفات الثقافية والتعبيرات الفنية وحتى إلى الأدب، فلم يكن دخول الإسلام إلى ماليزيا تحولًا مفاجئًا وقويًا، بل امتزج بالمعتقدات والتقاليد القائمة، مما أدى إلى ظهور شكل إسلامي توافقي فريد، وقد أسفر ذلك عن تكييف الشعائر والممارسات الإسلامية ودمجها في العادات المحلية، مما خلق شعورًا بالاستمرارية والانتماء، وأدّى ظهور الإسلام إلى تطوّر اللغة الملايوية وصقلها، مع ازدهار الأدب الملايوي الذي تأثّر بمعظمه باللغة العربية والنصوص الإسلامية، كما وجدت أشكال الفن الإسلامي، مثل المنحوتات المعقدة والخط العربي، طريقها إلى المشهد الثقافي الماليزي، مما أثْرى التعبيرات الفنية التقليدية. إلى جانب ذلك، شكّلت القيم الإسلامية المتمثّلة في الرحمة والتعاطف والعدالة الاجتماعية المشهد الأخلاقي في ماليزيا، مما أثّر على المواقف تجاه مساعدة الآخرين والمساهمة في رفاهية المجتمع، وألهمت القيم الإسلامية، مثل تلك المتعلقة بالأعمال الخيرية والمسؤولية الاجتماعية، تطوير المؤسسات الاجتماعية الإسلامية التي تهدف إلى تلبية الاحتياجات الاجتماعية مع الالتزام بالمبادئ الإسلامية.
يُعدّ الدين في ماليزيا أيضًا ملفًا حساسًا يتطلب مراقبة واهتمامًا من قِبل الجهات المعنية لضمان الانسجام بين الطوائف الدينية المتنوعة في البلاد، فشُرعت القوانين والسياسات التي نظّمت الممارسات الدينية، معزّزة السلام والأمن بين مختلف الطوائف والأديان في المجتمع الماليزي.
أما في بروناي، فيرتبط الإسلام ارتباطًا وثيقًا ومباشرًا بالثقافة السائدة في البلاد، حيث تميل عادات المجتمع إلى التحفّظ، ويرتدي الرجال والنساء ملابس محتشمة في الأماكن العامة، ويُحيّي البروناويون بعضهم بعضا بلمسة خفيفة باليدين، ثم تقريب اليد إلى الصدر، وإذا كانت التقاليد الملايوية هي الجذور الثقافية لبروناي، فإن الإسلام هو جوهرها، فثقافة بروناي تعدّ مزيجًا فريدًا يجمع بين أروع ما في الثقافة الملايوية وتعاليم الإسلام.
ومن هذا المزيج تُستقى العلاقة بين الحاكم والرعية التي يسودها الاحترام المتبادل، وتهدف هذه الفلسفة الوطنية إلى ترسيخ شعور أقوى بالهوية، وتعزيز الوحدة والاستقرار.
وتلعب المؤسسات الدينية والهيئات الخيرية دورًا محوريًا في تعزيز القيم في دول الأرخبيل، ونشر التعاليم الصحيحة للدين، وتعميق أثره في حياة الأفراد والمجتمعات، وتعمل هذه المؤسسات بشكل دؤوب على تقديم خدمات إنسانية نبيلة، ودعم الأنشطة الدينية والتعليمية.
طبيعة المجتمع وشعوب المنطقة وارتباطها بالدين الإسلامي أصبحت جزءًا من نسيج الطباع والثقافة في هذا المجتمع المتناغم، ويُعدّ تبادل التهاني في المناسبات الدينية والمشاركات المجتمعية علامة فارقة في الأرخبيل، ودلالة واضحة على أن التناغم الديني سِمة بارزة فيه، ويعزز هذا التناغم وجود قوانين صارمة، وتعاليم ثقافية، وعادات مجتمعية، تجعل من جنوب شرق آسيا قِبلة للتعايش السلمي بين الأديان والأعراق.