بين يدي الكتاب
وصلني الكتاب بإهداءٍ كريم من الشيخ عبد الله بن زامل بن صالح الزامل على غلافه الداخلي، مكتوب بخطِّ يده، وكنت قد وعدته أن أقرأه قراءة نقدية، وأستوفي الوعد بهذه القراءة لـ(عتباته)، فمنها أنطلقُ وإليها أعودُ، وقد حرصتُ على ألَّا أُثقلها بإحالات وهوامش لجيرار جينيت، وعبد الحق بلعابد، ويوسف الإدريسي وغيرهم من النقاد؛ لتكون قراءة خفيفة، سهلة التناول لغير المختصين في النقد الأدبي.
البيانات الأولية للكتاب
د. ندى بنت سعد الشنار
اسم الكتاب:
ذكرياتي في ثمانين عامًا
تاريخ النشر : 1445هـ
المؤلف:
عبد الله بن زامل بن صالح الزامل
دار النشر : مطابع الكراسة السعودية
رقم الطبعة : الأولى
مكان النشر : الرياض
عدد الصفحات : 237
الجنس الأدبي : سيرة ذاتية
عتبات النص
أدّى التطور في عمليات فهم النص تطورًا مماثلًا في طرائق تنظيمه بدءًا من فضاء البداية في النص، وهو الجزء الأهم في نظام البناء النصّي، وعتبات النص هي أول ما يطالعنا في النص المقروء، وقُدِّمت لهذا المصطلح العديد من الترجمات، منها (النص الموازي)، و(والتوازي النصي)، و(النص ألمحاذ)، و(النص المؤطّر)، و(النص المصاحب)، أو (بوابات النص ومداخله)، وكلها تدور في نفس المعنى من المصاحبة والدلالة.
تُمثّل عتبات النص الفضاء الذي يشمل كل ما له علاقة بالنص، من: عناوين رئيسة، وعناوين جانبية، وصور وألوان، و...، هذه العتبات تجعل القارئ يُمسك بالخطوط الرئيسة التي تُمكِّنه من قراءة النص وتأويله؛ لأنها تربط ربطًا مباشرًا أو غير مباشر بعلاقة جدلية مع النص، فهي المدخل الطبيعي إلى النص، ومُعين القارئ إلى طريق التواصل معه، إذ تُمكنه من الانفتاح على تركيب النص وأبعاده الدلالية من جهة، كما تُمكّنه من تحديد العناصر المؤطِّرة لبنائه (معماريته)، وبعض طرائق تنظيمه وتحققه التخييلي من جهة أخرى، أي أنها تحمل في طياتها وظيفة تأليفية تحاول كشف إستراتيجية الكتابة.
انطلاقًا مما سبق سأحاول الدخول إلى معمار (ذكرياتي في ثمانين عامًا) وعالمها الخاص من خلال (العتبات) التي تميّز بها فضاء المذكرات/ الذكريات كمفاتيح رئيسة.
أولًا: الغلاف
أول ما نقف عنده، وهو الشيء الذي يلفت انتباهنا بمجرد حملنا ورؤيتنا للكتاب؛ لأنه العتبة الأولى من عتبات النص المهمة التي تُدخلنا إشارته إلى اكتشاف علاقات النص بغيره من النصوص المصاحبة له (صورة، وألوان، وتجنيس، وموضع اسم المؤلف، ومستوى الخط)، فجميعها أيقونات علاماتية توحي بكثيرٍ من الدلالات والإيحاءات، وتُشكّل لوحة فنية جمالية تُعرِّف نفسها على قارئٍ مُبدعٍ، وتُمارس عليه سلطتها في الإغراء والإغواء لتلقِّي الكتاب وقراءته.
يتكوّن غلاف هذا الكتاب من أربع وحدات غرافيكية، تحمل عدّة إشارات دالّة، الأولى هي (الصورة) التي تُعدُّ وحدةً كُبرى تستقلُّ بذاتها، والوحدة الثانية (التجنيس)، والوحدة الثالثة (اللون)، أمّا الوحدة الأخيرة التي سنقف عندها طويلًا فهي (العنوان).
1 - الصورة
هي الرسالة البصرية التي تُعدُّ مثل الكلمات، فالصورة علامة أيقونية وخطاب مشكّل كمتتالية غير قابلة للتقطيع؛ لأنها المتتالية التي تسعى إلى تحريك الدواخل والانفعالات للرائي (القارئ)، وهذا ما يبرز جمالية المرئي الذي تتضافر عناصره من أجل تأكيد المكتوب.
إن اللغة البصرية التي من خلالها تتولَّد مجمل الدلالات داخل الصورة هي لغة بالغة التركيب، كما أنها لغة تعمل على نقل الأفكار والدلالات من لغة إلى لغة أخرى؛ لأنها تحكي الفكرة بلغة الشكل، واللون، والظل والملامح والاتساق البصري؛ لتضعها في سلّم القراءة، وتنتهي إلى الفهم والإدراك، عبر تحريك العقل وإعمال مهاراته.
الصورة في الغلاف تُشكّل وحدة كبرى تستقلّ بذاتها، صورة حقيقية لرجل ثمانيني، جاءت تأكيدًا للعنوان (في ثمانين عامًا)، يقف بشموخ بكامل الزي السعودي الرسمي في إعلان صريح عن هويته السعودية، يتكئ على عصًى بيمينه تسندها شماله في دلالة ضمنية على الاعتماد على الذات، كما أنَّ خلفية الصورة جاءت صامتة بلون واحد؛ ليكون التركيز على الصورة بعيدًا عن المشتتات.
يعمد بعض السعوديين في صورهم الرسمية إلى ارتداء بعض الكماليات، كالخاتم والساعة والقلم والمسبحة؛ (ربما) ليدلّلوا على مستواهم الاجتماعي والمادي، إلّا أن صاحب الصورة حرص أن يظهر خاليًا من تلك الكماليات؛ مما يُؤكِّد اعتزازه بنفسه، وإدراكه تمام الإدراك أن قيمته الحقيقية في ذاته التي عمِل على تطويرها، وفي منجزاته التي قدّمها لوطنه فهو يستمدّ منهما مكانته، في إشارة صريحة إلى أن هذه الكماليات لا تُمثّل قيمة في ذاتها - رغم وضعه المادي الذي يسمح له بارتداء الأثمن منها-، ورسالة ضمنية للأجيال القادمة أن قيمة الإنسان الحقيقية ليست في كماليات يتزيّن بها الإنسان بل الجمال الحقيقي يكون بالعلم والأخلاق والمنجزات التي تفيد الآخرين، وتُسهم في تقدم الوطن ورفعته.
جاءت الصورة كاملة لصاحب الكتاب، ولم يكتفِ بإظهار الوجه فقط؛ لأنه محور الحكاية، والعلاقة وطيدة بين الصورة وصاحبها المعلن عن اسمه في العنوان الفرعي تحت الصورة باسمه الرباعي (عبد الله بن زامل بن صالح الزامل).
وبعد الصورة الثمانينية ندلف إلى الصفحة الأولى التي تلي الغلاف فنجد رسمةً لوجه شابٍّ في مقتبل العمر، يرتدي ثوبًا فتح جيبه من أعلى، وكأنها إشارة إلى مرحلة من مراحل العمل الجاد والشاق؛ لشق طريقه في هذه الحياة، يرتدي نظارة ويُحدِّق إلى الأمام وكأنه يحاول قراءة مستقبله، وبين الصورة والرسمة بَوْنٌ شاسع في الشكل والزي والاستقرار النفسي، والتعلّم من دروس الحياة، وبناء الذات، وتحقيق الطموح.
2 - التجنيس
يُعد التجنيس وحدة من الوحدات الجرافيكية، أو مسلكًا من بين المسالك الأولى في عملية الولوج إلى نصٍّ ما، فهو ما يساعد القارئ على استحضار أفق انتظاره، كما يُهيئه لتقبل أفق النص، فمن خلاله يميّز النص الأدبي الذي سيختار قراءته إن كان رواية أو ديوانًا، أو مذكرات، أو قصصًا أو غيرها من الأجناس الأدبية.
يُفيد التجنيس في عملية التلقي بتحديد إستراتيجيات وآليات التلقّي والقراءة، وربط هذا النص المُجنّس بالنصوص الأخرى التي من نوعه في ذاكرتنا النصيّة؛ لأننا نتلقّى النص من خلال هذا التجنيس، ونعقد معه عقدًا للقراءة، مما يسهم في فتح الباب أمام فهم القارئ؛ للتعمق في النص.
تكرَّر تجنيس هذا النص أكثر من مرة، الأولى على غلاف الكتاب (ذكرياتي)، والثانية في الصفحة التي تلي الغلاف (ذكرياتي)، والثالثة كانت في المقدمة بتفصيل أكثر في قوله: «كتبتُ عن هذه الحياة التي امتدت أكثر من ثمانين عامًا، من أوائل مرحلة الطفولة، إلى هذا اليوم الذي أكتب فيه»، وبذلك يكون المؤلف قد أبعد المتلقّي (القارئ) عن الوقوف في حيرة التلقّي للجنس الأدبي؛ لأن من أكثر العوامل فاعلية في تحديد أفق التلقي، وطبيعة الاستجابة الأولى للنص الفني، مسألة التجنيس، وإستراتيجيات التسمية النوعية التي تجلب إلى عملية التلقي مجموعة من الخبرات النصية.
بداية النص كانت استدراجًا لدخوله من بابه المفتوح على مصراعيه بداية من الإهداء لأعظم شخصية كان سببًا - بعد الله - في وجوده، كان الإهداء الصريح لروح الأم (رقية اليحيى العلي السليم). أما العنوان الأول فهو مرتبطٌ بالأم، (مولدي)، فيجعلنا على أهبة الاستعداد؛ للدخول معه إلى عالمه الخاص، والتخلّص من القلق المصاحب لقراءة النص.
عمد الكاتب في تجنيسه لنصّه إلى كلمة (ذكريات)، ولم يكتب (مذكرات)، والفرق بينهما أن الذكريات هي الأحداث التي مرَّ بها الإنسان في حياته، وأصبحت ماضيًا، لكنها بقيت حيّة في الذاكرة، أمَّا المذكرات فهي كتابة وتدوين تلك الذكريات، فيصبح بوسع الآخرين غير كاتبها أن يقرؤوها، وقد جمع بينهما، وشحذ من ذاكرته أحداث الماضي بتفاصيل تجعلنا نعيشها واقعًا معه، وقد غابت عنه بعض التفاصيل فنجده يُكرِّر بين قوسين (على ما أذكر) في أكثر من موضع.
هذا الكتاب جزء من الكاتب إن لم يكن معظمه، لذا نراه يُكثر من استخدام ياء المتكلم في تجنيسه له بداية (ذكرياتي)، وفي الإهداء (أمي)، وفي الموضوع الأول (مولدي)، وكلها دلالات على عمق الارتباط بين الكاتب وكتابه، ويُؤكِّد هذا الارتباط تصريحه المباشر في مقدمته بذلك: «كتبته بقلمي، ولم أعهد به إلى المختصين في كتابة أمثاله؛ ليكون ما كتبته أقرب إلى الواقع، وأبعد عن التكلف، وألصق بصاحبه الذي عني بحقيقته ومشاعره».
والمتأمل في هذا الاقتباس القصير يجد التكرار لكلمة (كتبتُهُ)، فهو نص مكتوب ترتبط فيه (تاء الفاعل) التي تخص الكاتب، مع (هاء الغيبة) التي تخص الكتاب، وبينهما وشائج وثيقة، حملت ذكريات ثمانين عام بشخوصها وأحداثها وأماكنها وأزمنتها.
وفي كل عناوين الكتاب وعباراته كانت (ياء المتكلم)، و(تاء الفاعل) حاضرة، جعلتنا نعيش معه ذكرياته، ومراحل حياته، وكأننا نقرأ رواية تاريخية هو بطلها، وشخصياتها الرئيسة إخوته وأسرته وزملاؤه، تنقّلنا معه داخل المملكة وخارجها، على مختلف وسائل المواصلات، البسيطة والمتطورة، كما أشار إليها في مقدمته: «مرة على الأقدام والدواب، ومرة على السيارات والطائرات».
كما حملت ذكرياته في خاتمتها سِيَرًا غيرية لبعض من وردت أسماؤهم في هذا الكتاب سواء من أسرته أو ممن ربطته بهم علاقة أخوية أو علاقة عمل.
3 - اللون
اتّخذ اللون وظيفة تكنولوجية عندما حلَّ محلّ اللغة، ومحل الكتابة، لذا من المفترض في القراءة النقدية ربط اللون بنفسية الكاتب بداية، والمتلقي خلال تعاطيه مع النص، ثم بالوسط الاجتماعي والبيئة المحيطة؛ فدلالات اللون تُسهم في نقل الدلالات الخفيّة، والأبعاد المستترة في النفس البشرية، باعتبار الصورة واللون لغة عالمية تفهمها كل الشعوب.
يكتسي غلاف الرواية الرئيس باللون الترابي المركّز في أسفله، وكأنه يشير إلى الارتباط العميق للكاتب بأرضه ووطنه وجذوره، ويُؤكد هذا الارتباط ما صرّح به في مقدمته «وفي هذا الكتاب سينتقل القارئ بين مناطق المملكة العربية السعودية وسطها وجنوبها وغربها وشرقها»، وقد تنقّلنا معه بين مناطقها، فنجد أنفسنا معه وهو طفل رضيع في عنيزة، وشابٌّ يافعٌ في جيزان، ثم تتوالى رحلاتنا من مكة إلى جدة إلى الظهران، والخفجي وصامطة والرياض وغيرها من مناطق المملكة.
يتدرّج اللون الترابي في الغلاف، ويخف حتى يصل إلى البياض في أعلاه، في إشارة إلى الانطلاق خارج حدود الوطن، محلقًا في عدد من الدول والقارات التي ذكرها في مقدمته: «إلى الكويت، ولبنان، وإلى دول الغرب أوروبا وأمريكا، وإلى الشرق هونج كونج واليابان».
يحتل اللون الرمادي وسط الغلاف، ويشكّل خلفية لصورة الكاتب بغترته البيضاء، ومشلحه الأسود، فجاءت الخلفية رمادية، وكأنها مزيج بين اللونين الأسود والأبيض، في إشارة إلى عنايته بأدق التفاصيل.
4 - العنوان
يُعدُّ العنوان من بين أهم عناصر المناص (النص الموازي)، لذا فإن تعريفه يطرح علينا بعض الأسئلة، ويُلح علينا في التحليل كعنصر مهم؛ كونه مجموعا معقّدا أحيانًا أو مركّب، وهذا التعقيد ليس لطوله أو قصره، ولكن مرده إلى مدى قدرتنا على تحليله وتأويله.
يختزل العنوان مضمون النص، إضافة إلى وظيفته النفعية التي لها وزنها في تأطير النص، والتعويل عليه في إغراء القارئ بالشراء، وتحريكه لفضول القراءة لديه، والقاعدة المنظمة لهذه القاعدة وُضعت منذ قرون في مقولة (العنوان الجيد هو أحسن سمسار للكتاب)؛ لذا نجد الكثير من الكتّاب يعمدون إلى العناوين الرنّانة دون وعي بجماليتها، مما يُوقع القارئ في فخ العماء اللا مرئي.
وانطلاقًا من مقولة (إن يكن الكتاب أغرى من عنوانه أحسن من أن يكون العنوان أغرى من كتابه)، والتزامًا من كاتبنا في الإبقاء على ذلك الميثاق الأخلاقي للقراءة فقد جاء عنوانه صريحًا مباشرًا مُدلِّلًا على مضمون نصه (ذكرياتي في ثمانين عامًا- عبد الله بن زامل بن صالح الزامل)، فأفق التوقع الآن واضحة لدى القارئ، فهو سيقرأ سيرة ذاتية لشخصية ثمانينية، مُصرّح باسمها الرباعي، وصورتها الحقيقية، سيعيش معها محطات من حياتها وتجاربها.
كما أنّ وعيه بمضمون النص يجعله متقبلًا لما سيقرأه، ويتبقّى عليه الدخول إلى النص؛ ليستكشف الأسلوب الذي اتبعه الكاتب في سرد ذكرياته، وإن كان سيعتمد على الاسترجاع الفني (الفلاش باك) باستدعاء الأحداث خارج الخط الزمني للقصة، أو الاعتماد على (اللقطات الفلاشية) في السرد، أو الاعتماد على تتبع الخط الزمني من البداية كما هو الأسلوب الذي اعتمده كاتبنا في مذكراته.
صرّح الكاتب بأسلوبه السردي في مقدمته «كتبت... من أوائل مرحلة الطفولة، إلى هذا اليوم الذي أكتب فيه»، فلم يُكلّف القارئ عناء استكشاف الأسلوب أو الطريقة التي سيتبعها الكاتب، بل لخّص له الخط الزمني بدءًا من المولد عام 1348هـ/ 1930م إلى العام الذي كتب فيه ذكرياته ونشرها 1445هـ/ 2024م.
كُتب العنوان بخط (الرقعة) لا بخط النسخ، وخط الرقعة يتميز بسهولته وانسيابيته ومرونته، وكأن هذا الخط يشي للقارئ بسهولة التعاطي مع النص الذي سيقرأه، وليس أدلّ على ذلك من التيسير عليه فيما ذكر من اعتماد التصريح بالجنس الأدبي، وأسلوب عرضه.
جاءت ذكرياته شديدة الارتباط بزمنه وأحداث عصره، ومتغيراته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهي سجلٌّ حافلٌ بتجاربه التي جاءت غير منمقة كما هي ذكريات معظم الكتَّاب في أدبنا العربي، حيث يحرصون على تشذيبها؛ لتظهر بصورة مثالية بعيدة عن العفوية والتلقائية والتجارب الصادقة والآراء الخاصة.
(ثمانون عامًا) لخصها كاتبها في المقدمة «كتبتُ صفحات من الصبر والسعي في هذه الحياة، يتراءى لي الهدف فأسعى إليه، وكم خاب المسعى فلم يوصل إلى الهدف، ولكن منحني هدفًا آخر، وتجربة جديدة، ومعرفة مؤكدة، وليس من رأى كمن سمع».
(ثمانون عامًا) أشار كاتبها إلى الهدف من كتابتها، وأنه لم يستغرق في جميع التفاصيل ويُغرق القارئ «لقد اخترتُ في هذا الكتاب أن أقصره على ما يهم القارئ، ويمكن أن يفيد منه»، فالذكريات لم تكتب لإظهار البذخ الفكري، وتلميع الذات، بل كُتبت ليدرك طالب النجاح أن الوصول إليه محاطٌ بعثرات وصراعات وخيبات، فالطريق ليس ممهّدًا وإن كان آباؤك قد أسسوه لك.
اختيار الكاتب لتمييز العدد (ثمانين) كلمة (عامًا) بدلًا من (سنة) كان اختيارًا موفقًا ودقيقًا ينمّ عن وعيٍ بالتفاصيل الدقيقة للفرق بين الكلمتين، فالسنة في اللغة تدلُّ على الشدة والجدب، كما تُستخدم كوحدة قياس للتعبير عن عمر الإنسان والتاريخ والفترات الزمنية، بينما كلمة (عام) تدل على الخير والرخاء، وتُستخدم للإشارة إلى الأعوام الاستثنائية في المواضع المتعلقة بالتخصيص والترتيب، فرغم ما مرَّ به الكاتب من نصب وتعب في بداية مسيرته لكنها كانت متطلبات رئيسة لما وصل إليه من خير ورخاء، كما أنه لم يُعنى بالثمانين حساب عمره بقدر عنايته بما أنجزه خلالها، والمحطات الاستثنائية التي توقف عندها وأثْرَت مسيرته.
جاءت الذكريات - رغم خصوصيتها - أشبه بمذكرات ووثائق تاريخية تُسلّط الضوء على أهم الأحداث والعادات والتقاليد والمعلومات التي قد تفيد الباحثين في التاريخ السعودي، وسنقف على بعض الفوائد التي سيخرج بها القارئ لا محالة، والمعلومات التي ستفيد الباحثين ولا جرم في مختلف المجالات، على سبيل المثال لا الحصر:
1 - التعليم
- تاريخ رياض الأطفال في المملكة العربية السعودية، فقد أشار إلى أن الكتاتيب عندما كان في السادسة من عمره (أي في عام 1353هـ، بناء على تاريخ ميلاده) «لم يكن كُتَّابًا، فهو لا يعدو أن يكون روضة أطفال، يُراد منه أن يتعوّد الأطفال الصغار على التعايش مع الآخرين، والابتعاد عن الالتصاق بأمهاتهم طوال الوقت».
- المناهج، أشار إلى المناهج التي كانت تُدرّس في تلك الفترة «حيث كانت تُدرِّس إلى جانب القرآن مبادئ في العلوم الدينية، والتاريخ والجغرافيا والحساب، مع التركيز على الحساب والمراسلات التجارية».
- افتتاح المدارس النظامية، «افتتح في عنيزة مدرسة حكومية تابعة لمديرية المعارف العامة، وهذه المدرسة واحدة من تسع مدارس ابتدائية أمر الملك عبد العزيز - رحمه الله- بفتحها في عدد من مدن المملكة عام 1356هـ/ 1937م».
- نظام الدراسة، واستفاض فيه الكاتب تحت عنواني: (دراستي في المدرسة الحكومية في عنيزة/ دراستي في مدرسة عبد العزيز الدامغ في عنيزة).
- بين الثانوية العامة والمعهد العلمي، حيث عرض لانقسام الأهالي ووجهات نظرهم في دراسة أبنائهم للثانوية العامة أو المعهد العلمي، وكيف يستفتي الأهالي العلماء والمشايخ في هذه المسألة؛ لتحديد مسارهم الدراسي، وفصّل في هذه المسألة تحت عنوان (رأي الشيخ السعدي - رحمه الله - في دراسة الثانوية العامة).
2 - توطين البادية
حيث ذكر في رحلته الأولى إلى منطقة جازان أسماء بعض القرى التي بنتها الدولة، «واجتاز الدفينة والمويه... وهما قريتان صغيرتان من قرى الهجر التي بنتها الدولة في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله -؛ ليعتاد أفراد البادية على الاستيطان والاستقرار، ونبذ حياة التنقل والتجوال، وكان يطلق على البعض منهم في ذلك الوقت (الإخوان)».
3 - الأسواق والأماكن القديمة
فصّل الكاتب في ذكر بعض الأسواق القديمة، وحدد أماكنها، والهدف منها، والنشاط الذي يزاوله الناس فيها، ومن ذلك:
(سوق الجودرية)، يقول: «ذهبنا إلى سوق الجودرية حيث يلتقي القادمون إلى مكة مع المقيمين فيها... فيتداولون الأحاديث، وكلٌّ يتلقّى ما يهمه من أخبار البلد وأهله»، ثم ذكر أشهر (دكّان) في السوق، وهو دكّان (الفريح)، وأعطى نبذة تاريخية عن أصحابه، ودوره في السوق حيث «اعتاد القادمون إلى مكة على وضع ما كُلِّفوا بإيصاله من الرسائل... كما اعتاد المقيمون في مكة على ارتياد دكّان الفريح؛ ليأخذوا ما قد يكون وصل لهم من رسائل... وأُطلق على دكّان الفريح اسم البريد المركزي».
(سوق المحناط)، «تقع في الجنوب الغربي من مدينة جيزان، يلتقي فيها بائعو الحبوب مع المشترين...بعد شروق الشمس بقليل، ويصلون تباعًا إلى قرب صلاة الظهر... وتبدأ عملية المساومات بين البائعين والمشترين إلى أن يصلوا إلى سعرٍ يُتَّفق عليه».
كما أشار الكاتب إلى (نُزْل السيدة صالحة)، بقوله: «السيدة صالحة...اتخذت من نزلها مقرًّا يستريح المسافرون فيه ويطعمون»، وكأننا نستحضر عند قراءته حي (خنشليلة) في الرياض، التي تُشير بعض المصادر القديمة إلى أن التسمية في أصلها مركبة من (خان شليلة)، وهو مكان يشبه الخان لامرأة تُسمى (شليلة)، يقصده المسافرون، وأصبح اسمًا واحدًا يتداوله الناس للإشارة إلى الحي الذي كان فيه الخان. وربما يُستعان بالمعلومات عن نزل السيدة صالحة في هذه الذكريات؛ لتكون مرجعًا للباحثين في هذا المجال.
4 - المهن القديمة
كبيع الحبوب - كما مرَّ معنا - والغوص وتجارة اللؤلؤ، وجني الكمأة (الفقع)، والجمّالين، والرايِس... وغيرها من المهن التي جاء ذكرها في العناوين الأولى للكتاب، وفي كل مهنة يعطي تفاصيل عنها، يمكن للباحثين في مجالها الاستفادة منها.
5 - التداوي
عرض إلى التداوي بالكي، مدلِّلًا عليه بقصة الرجل اليمني من أصول تركية، وقصة حدثت له شخصيًّا عندما كان صغيرًا، وأعطى تفاصيل الكي تحت عنوان (العم مقبل يحب فعل الخير لمن هو في حاجة إليه).
تعد الذكريات - إضافة إلى ما ذكر - وثيقة جغرافية في دقة المعلومات الخاصة بمساحة المدن، وموقعها، وحدودها، ومن ذلك تفصيله في المعلومات الجغرافية الخاصة بـ(جزيرة فرسان)، والمسافات التي تُستغرق في السفر بين المدن، وخط السفر في ذلك الوقت.
ويُمكن للباحثين في اللهجات السعودية وعادات الناس في بعض المناطق الاستعانة بالذكريات، ومن ذلك ما ذكره عن منطقة جازان: «وصلنا إلى جازان ليلًا، فوجدت نفسي بين أناس يختلفون في عدة أمور عمّا عرفته لدى آخرين كنت عايشتهم أو مررت بهم، كانوا أناسًا يكتفي بعضهم من اللباس بما يستر عورته، أما أعلى جسمه فلا شيء عليه، ويتركون شعر الرأس يطول... ويسمون الشعر الطويل للرجل جهفة، وبعضهم أقدامهم مغمورة بالحناء حتى مفصل القدم من الساق... وأول مرة سمعت في لهجتهم ما لا يمت للهجتي بصلة، سمعتهم يقولون: القهد، متعاطي، أم زلط، تقنبر... مغشر»، ثم يشرح معاني تلك المفردات: «فكلمة قهد تعني طفل صغير، وكلمة متعاطي تعني متدخل فيما لا يعنيه، وهو ما يوصف في لهجتنا النجدية باللقافة، أما زلط معناها النقود، وتقنبر أي اجلس، ومغشر أي عالي الجودة».
كما أشار إلى بعض الرموز التي اخترعها الناس في تلك الفترة؛ للدلالة على (الكسور العشرية) في التجارة، وفصّل في الرموز من حيث شكلها ودلالتها تحت عنوان (معاناة والدي مع الحساب).
ويحمل الكتاب العديد من الرؤى المستقبلية التي تفيد من لديه ميول تجارية وأعمال حرة أن يستفيد منها، منها - على سبيل المثال - عند حديثه عن جزيرة فرسان «فموقعها قريب من أوروبا كما أنها قريبة من الشرق، وأرض جزر فرسان صالحة لقيام مشروع تنموي، وسيكون نصيبه من النجاح كبيرًا، ولعل أقرب مشروع يتبادر إلى الذهن هو تحويل فرسان إلى منطقة حرة، وهي مناسبة لذلك»، كما أشار إلى (مشروع تكاثر الأرانب)، وهي أشبه بتوصيات من رجل أعمال لأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين، أو المبتدئين في التجارة؛ لدراسة جدواها، ومباشرتها.
الحديث يطول عن العنوان، ولعلّنا نكتفي بما ذكرناه، وكأننا بذلك نقف على شاطئ الكتاب، ولم نبحر في أعماقه، ونستجلي ثرواته، وأرجو أن أكون قد أفدت القارئ في هذه القراءة النقدية السريعة بوضع يده على بداية الطريق في قراءة الغلاف؛ ليتعمّق أكثر في تلك الذكريات التي راجعتُها مراجعة لُغوية فاحصة ودقيقة قبل الطباعة، وتفاجأت عن قراءتها قراءة نقدية أن كثيرًا من التعديلات والتصويبات لم يُؤخذ بها في الطبعة النهائية، ولعل أصحابها يتداركون ذلك في الطبعات القادمة.