منال الحصيني
في زحمة الحياة وتسارع الأيام، نحرص على قياس ضغط الدم، ونراقب مستويات السكر، ونقلق على أوزاننا. لكن... كم مرة سألنا أنفسنا بصدق: «كيف حال صحتي العقلية؟»
الصحة العقلية ليست رفاهية، وليست ترفًا للنقاش في أوقات الفراغ. إنها العمود الفقري لتوازن الإنسان، والبوابة الحقيقية لحياة منتجة وسليمة. العقل المتعب لا يرى الجمال، ولا يحتمل الضغط، ولا يستطيع اتخاذ القرار السليم، حتى لو بدا جسد صاحبه بكامل صحته.
عصر السرعة والتكنولوجيا... نعمة أم نقمة؟
لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا سهّلت الحياة، واختصرت المسافات، وجعلت العالم في راحة الكف. لكن السؤال الأهم: هل دفعنا ثمناً باهظًا عقليًا مقابل هذا الرفاه؟
تشير دراسات حديثة إلى أن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا، وخصوصًا الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، يؤثر سلبًا على الصحة العقلية، وبشكل أعمق مما كنا نتصور.
أضرار الاستخدام المفرط للتكنولوجيا على العقل:
1 - الإجهاد الذهني المستمر:
العقل لم يُخلق ليتلقى آلاف المعلومات في الدقيقة الواحدة. التنقل السريع بين التطبيقات، والمحادثات، والتنبيهات، يصيبه بحالة من الإرهاق تشبه «التشويش المزمن»، ما ينعكس على التركيز والذاكرة.
2 - القلق الاجتماعي والشعور بالنقص:
المقارنة اللاواعية مع الآخرين على منصات التواصل تولّد شعورًا دائمًا بعدم الكفاية، وكأن الجميع يعيشون حياة مثالية إلا أنت. هذا الضغط الخفي يؤدي إلى اضطرابات في تقدير الذات، بل قد يفاقم أعراض الاكتئاب والقلق.
3 - ضعف جودة النوم:
الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات يعطّل إفراز الميلاتونين، الهرمون المسؤول عن النوم، ما يجعل النوم متقطعًا وسطحيًا. والعقل المحروم من الراحة هو عقل هش، هش في قراراته، سريع الانفعال، مفرط التفكير.
4 - تآكل القدرة على التواصل الحقيقي:
رغم كثافة التواصل الرقمي، إلا أن العلاقات العميقة أصبحت نادرة. الاعتماد الزائد على الرسائل والرموز بدلاً من التواصل البشري الفعلي أضعف مهارات الاستماع والتعاطف، وأدخل الكثيرين في عزلة ناعمة لا يشعرون بها إلا بعد فوات الأوان.
كيف نعتني بعقولنا في هذا العصر؟
- خفّف من الضجيج الرقمي: خصص أوقاتًا يومية «صامتة» بلا إشعارات ولا شاشات.
- مارس التأمل أو الرياضة: كلاهما ينعش العقل ويهدّئ الجهاز العصبي.
- احرص على جودة علاقاتك الإنسانية: تواصل وجهًا لوجه، اسأل عن أحوال من تحب بصدق.
- لا تتجاهل الإشارات: إن شعرت بإرهاق عقلي مستمر، لا تخجل من طلب المساعدة من مختص.
الإسلام وطمأنينة العقل:
الإسلام يمنح العقل راحته وطمأنينته، فلا عجب أن جعَل الذكر دواءً، والتفكر عبادة، والاعتدال مبدأ. في الصلاة سكينة للعقل، وفي الدعاء تفريغ للهموم وتحرير من الضغوط. ذكر الله يطمئن القلب، وطمأنينة القلب تُنير العقل وتثبّت النفس. كما ينهى الإسلام عن الغلو والوسوسة، وكل ما يرهق الذهن ويشوّش صفاءه. فالدين، حين يُفهم بروحه لا بقوالبه، هو سندٌ عظيم لصحة الإنسان العقلية.
ختامًا...
العقل هو القائد، وإذا تاه القائد ضاعت القافلة.
اسأل نفسك اليوم، بصوت داخلي هادئ:
«عقلي العزيز... كيف حالك؟ وهل أعطيتك ما تستحق من عناية؟».