د. تنيضب الفايدي
مغاير شعيب ويطلق عليها في المصادر القديمة مدين، وقد ورد مدين في القرآن الكريم، قال الله تعالى في سورة هود بعد قصة قوم لوط: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (الآية 84)، وهي مدينة صغيرة تتبع إمارة منطقة تبوك، وتُسمى في عصرنا البِدْع، سميت به كما يقول أهل المنطقة نظراً لبديع جمال الموقع وكثرة الأشجار الخضرة فيه باستمرار حتى وقتنا الحاضر. وقيل: أن اسم البِدع ناتج عن أن هذه الأرض قد دثرت ثم بدعت فيها آبار ومزارع فسُميت بذلك.
ومغاير شعيب عبارة عن كهوف وأضرحة نبطية محفورة بالصخر بطريقة هندسية رائعة، وقد حفرت المغارات في الواجهات الصخرية، ومعظمها على شكل كهف بسيط مربع الشكل له مدخل، والقليل منها له واجهة مزينة بزخارف على شكل شرفات أو على شكل زخرفة (خطوة الغراب) ذات الأصل الآشوري، تتألف من صف وأحياناً من صفين، موضوعة بشكل أفقي في الثلث العلوي أو في أعلى الواجهة، كما يعلو مدخل هذه الواجهات إفريز أو عتبة أفقية بارزة، وأحياناً تحيط بالمدخل دعامتان يعلوهما تاجان نبطيان على هيئة مثلث، وقد عثر على مجموعة من كسر الفخار النبطي الرقيق بين هذه الأضرحة، وتتكون هذه المقابر أو الأضرحة النبطية من عدد من المجموعات المتجاورة.
وأسلوب الحفر مشابه لما وجد في الحجر (مدائن صالح)، لكن أقلّ روعة منه، ويدل على مظاهر القوة ولاسيما التجويفات الكبيرة داخل الجبل، وقد نحتت الأضرحة المنحوتة المتعددة داخل هذه التجويفات الصخرية وبشكل هندسي، وأغلبها ذات مساحة واحدة، وقد تتعدد الأجساد في الضريح الواحد وتوضع بينها فواصل لوجود أجزاء منحوتة على حواف الضريح في أبعاد مختلفة، وتكون هذه الأضرحة منحوتة في أرضية التجويف وعلى جوانبه بشكل طولي، وهناك أحجام صغيرة قد تكون للأطفال، كما أن هناك منحوتات كبيرة الحجم، مع احتمال استخدام بعضها بيوتاً، وهناك شبه كبير بين تلك الأحافير الموجودة في مدينة البدع ومدائن نبي الله صالح عليه السلام في مدينة العلا سواء في الواجهات أو المنحوتات الداخلية مع اختلاف الأحافير في البدع عنها في كلّ من الخريبة والحجر بالعلا؛ حيث إن الواجهات تتميز بالدقة والمهارة ولاسيما في جبال العلا (الخريبة والحجر)، كما تحوي العديد من الآثار المميزة منها الأضرحة المنحوتة بالجبال التي تعود إلى العصر النبطي، إضافة إلـى الآثار الإسلامية المبكرة.
ولعل السبب الأساسي لحفر القبور في الجبال اعتقادهم بأن المقبرة المنحوتة في الصخر تحقق لصاحبها الخلود، ويتضح ذلك من خلال مئات المدافن النبطية المنحوتة في الصخر بمدائن صالح والبدع وغيرها من المواقع، إن هذه المدافن وأساليب الدفن تعكس الإيمان بالحياة الأخرى بعد الموت، لذا فإن الأنباط الذين تكبدوا عناء نحتها الجميل والمكلف قد اعتقدوا أن راحتهم الأبدية قد تحصل في نحت هذه المدافن.
وتتوزع مدافن البدع في مجموعات تقع بالجهة الغربية لوادي عفال، أغلب هذه المدافن تتجه ناحية الشرق وذلك فيما يبدو وفق مفاهيم ومعتقدات دينية تنبع من حرص صاحب المدفن على أن يكون باتجاه الشرق.
وقد لعبت طبوغرافية المنطقة في الغالب في تصنيف المدافن إلى بعض المجموعات، وكلّ مجموعة صنفت بناءً على الشكل الظاهري للمدافن، وتمركزها في منطقة طبوغرافية معينة، وكلّ مدفن صنف معمارياً تحت نوع مستقل في نفس المجموعة الرئيسة، وهي على النحو التالي:
المجموعة الأولى: تتصف مقابر ومدافن هذه المجموعة عن المجموعات الأخرى بأنها لم تنحت في غرف ذات وجهة، بل أنها نحتت بالعراء على سفوح الأودية وعلى الجبال. المجموعة الثانية: وهي المدافن ذات الواجهات غير المزخرفة وقد وجد داخل غرف الدفن تنوعاً في عناصرها المعمارية وطريقة نحت قبورها.
المجموعة الثالثة: وهي المدافن ذات الواجهات المزخرفة.
ويعدّ موقع المقابر (أو المغاير) أبرز المواقع الأثرية بواحة البدع، وقد جذبت هذه المنطقة اهتمام المؤرخين والجغرافيين، وكذا الرحالة عند مرورهم بها، فقد ورد مدائن شعيب لدى بطليموس باسم (عينونة القبور)، وزار روبل Ruppel الرحالة البريطاني في سنة 1850م، وهو أول من لفت أنظار الباحثين من المستشرقين، فزارها عدد منهم وكتبوا عنها. كما وصفها اليعقوبي بأنها مدينة قديمة عامرة تشتهر بكثرة زروعها وتحوي عيوناً كثيرة وأنهاراً عذبة، كما ذكر ابن رُشيد الأندلسي (684هـ)، هو يصف طريق عودته من الحج مرافقاً الركب المصري حيث يقول: «وكانت من جملة ما وردناه أيضا مغارة شعيب عليه السلام وهو ماء مدين ومدين بلد جذام... وهذا الماء مورد معين جداً في مغارة منقورة في حجر ينزل إليها بأدراج متسعة بحيث يتلاقى فيها الصاعد والنازل وهي شبه صهريج مملوءة ماء عذباً طيباً. وبعده بسنوات قليلة مرّ هنا المغربي العبدري (سنة 689) فقال: «والمغارة نفسها من صنع الله الذي أتقن كلّ شيء لا قدرة لآدمي على مثلها والماء في قعرها كثير، ظاهر من الباب راكد كأنه بركة مصر وهو ماء معين بلا ريب ولولا ذلك لنزف في سقية واحدة, وهو عذب لولا ما يخالطه مما ينصب اليه من مسبطة السقاة, وبين باب المغارة وقعرها بالتقدير 60-70 ذراعاً.
ويقول الدرعي: «ونزلنا مغاير شعيب والعرب تقول له البدع وهو وادٍ ذو مياه دافقة عذبة الى الغاية باردة الى النهاية، جارية في نخيل بطرف الغابة، وتسوقنا به أعراب مدين يدعون العميرات وغيرهم بتمر وغنم وغيرها من المحتاج.
وقد وصف الجزيري وهو من القرن العاشر الهجري قائلاً: «والمغارة بالجبل ينحصر بها الماء من الأمطار، وكان موردها في القديم للوفد بئراً بساقية وفسقية، وطبقة بقبة، ورأيت المغار سفلياً متسماً، وبه منفذ صغير ثان من جانب الساقية، والساقية بالطوب الأحمر، وبئرها واسعة المقدار، ولها حظير مبني بالأجر، وبالساقية بيت لخزن التبن ومحل للسواقي، وتجاه ذلك بناء بالأجر شبه مسجد.
وقال العياشي يمدحُ ماءها: ماؤها طيب جدا حلو خفيف نافع.. وبالفعل فقد ذقنا مياه هذه البلدة ووجدناه شديد العذوبة لذيذ الطعم. وهناك سوق مغاير شعيب الذي يقع على طريق الركب المصري، فكان يتم عقده بشكل موسمي، وقد وصفه العياشي بقوله: «نزلنا في المكان المسمّى بمغاير شعيب عليه السلام ..، وتسوقنا بها أعراب مدين بأحمال كثيرة من العنب الجيد الأسود، وهو في غاية الحلاوة، وجاؤوا برمان كثير، واشترى الناس العنب أولاً بدرهمين، ثم صار بعد ذلك رطل ونصف بدرهم». وفي آخر العصر العثماني تراجع هذا السوق، وآخر من وصفها من الحجاج محمد صادق باشا (1297هـ): مغاير شعيب هو محل بين تلال يحدق به نخيل وعبل ليس به حشائش ولا مساكن مبنية إلا زريبات لسكنى العربان وتحمل المياه العذبة من مغاير تحفر بجوار الشجر .. ولا يباع بهذه المحطة شيء سوى حشيش البهائم.
وقد زارها الرحالة فيلبي وكتب عنها أكثر من مرة حيث يقول: «بالإضافة إلى عظمتها فإن المرء يجد لها طابعاً مميزاً وهي الصخور التي حفر فيها معظم هذه الآثار». ويقول في موضع آخر: «وأحسن ما يمكن أن توصف به قولنا إنها صخور رملية متآكلة، تحوي على مواد جيرية صلدة وثابتة اللون، وإنه ليبدو مذهلاً أن هذه الصخور رغم تقلب عوامل الجوّ كالرياح والمطر والشمس عليها آلاف السنين فقد قاومتها وجعلتها عاجزة عن محو فن المعمار النبطي والهندسة المعمارية»، ووصفها المؤرخ العلامة حمد الجاسر وذكرها في مؤلفاته باسم (البدع) - مغاير شعيب - وهي عبارة عن واحة قديمة بعث الله فيها نبيه شُعيب عليه السلام إلى قومه مدين. وقال عنها عاتق البلادي: «مغاير شُعيب: جمع مغارة، وهي الغار العميق في الجبل. مغاير في صفراء شعيب التي تظلل البِدْع من الغرب.. وأضاف فيقول: «والإجماع من زمن متقدم على أن هذه مغاير شعيب وأن البلد هو بلد شعيب سواء كان اسمه مَدْين أو الأيْكَة، فقد مرّ الرحالون من حجاج مصر من هنا منذ بداية القرن التاسع أو قبله فذكروا أن الاسم هو مغاير شُعيب وأنها مدين».
يقول أحد المؤرخين: «مغاير شعيب كانت مقصداً للرحالة والمستشرقين، حيث شهدت زيارة عدد من الرحالة، أبرزهم ادوارد روبل وهو أول أوروبي زارها، والفنلندي جورج اوغست فالين وهو أكثر المستشرقين الاسكندنافيين شهرة، كما زارها المستكشف البريطاني ريتشارد فرانسيس بيرتون وعدد من الرحالة، وكان من أبرزهم الرحالة الإنجليزي هاري فيلبي، والذي أشار إلى أنه يوجد ما لا يقل عن 80 قبراً منتشرة من النوع النبطي في منطقة مغاير شعيب، وأن المقابر كانت مقصورة على الأسرة الحاكمة والنُبلاء والوجهاء من كبار حكم الأنباط، إلا أن هذا العدد لا يوحي بكثرة في عدد سكان الأنباط، أو في المقابل طول مُدة حكمهم في مدين».
وظنّ البعض منهم بأن هذه المقابر تخصّ قوم شعيب فأطلقوا عليها اسم (مغاير شعيب) على اعتبار أن البدع تقع في أرض مدين التي عاش فيها شعيب وقومه، ومن هؤلاء الجغرافيين الحميري (توفي حوالي القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي) الذي يذكر نقلاً عن غيره في وصف مدين حيث يقول: « وفي الجبال التي هناك بيوت منقورة في صخور صُم، قد حفر في البيوت قبور، وفي تلك القبور عظام بالية كأمثال عظام الإبل، يكون مقدار كلّ بيت عشرين ذراعاً أو نحوها، ولتلك البيوت روائح خبيثة لا يدخل الداخل فيها حتى يضع يده على أنفه من شدة النتن، يقال أنهم لما أخذهم عذاب يوم الظلة دخلوا فيها فهلكوا، وبقرب هذه البيوت تلال تراب عظيمة قيل أنها كانت مواضعهم عامرة فخسف بها».
وتحتوي مغاير شعيب عدداً من المعالم الأثرية، ويرى بعض علماء الآثار أنها تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد، ومن أبرز المعالم الأثرية في مغاير شعيب الواجهات النبطية، وهي وحدات معمارية كتب عليها الكثير من النقوش والزخارف اللحيانية والنبطية، كما يوجد بها موقع لمدينة قديمة منذ الفترة الإسلامية المبكرة تعرف باسم «الملقطة». وتحتوي مغاير شعيب على 16 مقبرة منحوتة في الصخور تعود إلى العصر النبطي، وتنم المدينة المنحوتة داخل الجبال بطريقة هندسية دقيقة عن حضارة عريقة، حيث تعاملوا مع الحجارة الصماء، وطوعوها فكانت سكناً لأحيائهم وقبوراً لموتاهم. وتوجد فيها بركة وساقية أنشئت في العصر المملوكي، وأيضاً بركة قديمة متصلة بموقع الملقطة الأثري والتي يرجع تاريخها إلى العصور الإسلامية المبكرة. وهناك البركة المملوكية التي بُنيت على مقربة من بئر السعيدني، وهي بئر قديمة محفورة بالصخر، وقد اشتهرت في المصادر الإسلامية باسم بئر موسى، ويتصل بين البركة والبئر قناة طويلة.
إن مغاير شعيب (البدع) وآثارها من قصور وبرك وقبور منحوتة ونقوش كتابية ورسوم حيوانية تدلّ على قدم تاريخها وتمثل إرثاً حضارياً تناقلتها الأجيال منذ آلاف السنين، ونظراً لأهميتها فقد ألفت كتاباً (مدين بين التفسير والتاريخ) وهو تحت الطبع، وقريباً سيرى الضوء بإذن الله تعالى.
***
المراجع: المدافن المنحوتة في الصخور بواحة البدع تأليف: وليد علي بديوي، عمارة الحضارات القديمة تأليف: صالح لمعي مصطفى.
الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري، الرحلة العياشية للعياشي، الرحلات الحجازية تأليف: صادق باشا، أهل مدين.. دراسة للخصائص والعلاقات لــ: عواطف لأديب سلامة، في شمال الحجاز والأردن تأليف: عاتق غيث البلادي، العقد الثمين لدرر تبوك.
للدكتور/ تنيضب الفايدي.