د. داليا عبدالله العمر
كم عانت المرأة المسلمة من وطأة مفاهيم مغلوطة، ترسخت عبر عصور الانحطاط الفكري، وغُبِن فيها الضعيف، وحُمِّلت نصوص الوحي ما لا تحتمل، فانتُزعت من سياقاتها الرحبة، واستُخدمت لتكريس نظرة دونية تتعارض جوهريًا مع روح الإسلام ومقاصده السامية. إن الدين الحنيف، الذي رفع من شأن المرأة وجعلها شقيقة الرجل في الإنسانية والتكليف، بريء كل البراءة من تلك التأويلات القاصرة التي سعت للانتقاص من قدرها.
لقد أرسى الإسلام مبدأ التفاضل بين البشر على أساس التقوى والعمل الصالح، لا على أساس الجنس أو العرق أو النسب، مصداقًا لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13).
وفي هذا السياق، تأتي هذه القراءة الشرعية لتفنيد أبرز المغالطات التي شوهت صورة المرأة في بعض الخطابات الدينية المتأخرة، مستندة إلى منهج علمي شرعي قويم، قوامه كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح.
من أبرز ما يثار هو الحديث الشريف: «رأيت النار فإذا أكثر أهلها النساء» (رواه البخاري ومسلم)، حيث يُستدل به خطأً لتكريس نظرة دونية للمرأة، بينما الواقع أن الحديث يحمل دلالة تحذيرية لا تحقيرية.
فقد أوضح الإمام النووي رحمه الله أن كثرة النساء في النار يعود إلى أنهن أكثر عددًا من الرجال في الدنيا، وليس انتقاصًا لطبيعة المرأة. كما أن هذا الحديث لا ينفي دخولهن الجنة، بل قد يكون الوجود في النار مؤقتًا، فالرحمة الإلهية تسع الجميع، كما دل على ذلك حديث الشفاعة، وقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (النساء: 48).
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه النساء بلطف ورقة، كما في تتمة الحديث:
«تصدَّقنَ فإني رأيتكن أكثر أهل النار».
فالغرض تحفيزي تربوي، لا ذم لجنس النساء.
أما ما يثار حول حديث «ناقصات عقل ودين» (رواه البخاري ومسلم)، فإنه أُسيء فهمه وتوظيفه خارج سياقه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب النساء يوم العيد بالملاطفة لتحفيزهن على العبادة. ونقص الدين الذي أشار إليه يتعلق بإسقاط الصلاة والصيام عن المرأة أثناء الحيض والنفاس رحمة بها، وليس انتقاصًا من تدينها أو منزلتها عند الله. وهذا ما أمر الرجال برعايته رحمةً بالنساء وخصوصيتهن.
أما نقص العقل فلا يعني قصورًا في التفكير أو ضعفًا ذهنيًا، بل هو مراعاة لفطرة المرأة التي يغلب عليها العاطفة في القضايا المالية أو الجنائية، فجُعلت شهادتها بشهادة أخرى معها، حفاظًا على ضبط الحقوق، كما قال تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} (البقرة: 282).
وقد راعى الإسلام هذا الفارق الطبيعي فجعل شهادة النساء مقبولة منفردة في القضايا الخاصة بالنساء مثل الولادة، والرضاع، وعيوب النساء، وهي أمور لا يطلع عليها الرجال غالبًا، قال الإمام النووي رحمه الله: «تُقبل شهادة النساء منفردات في مواضع لا يطلع عليها الرجال عادة».
فالحديث يصف اختلافًا في الوظائف الطبيعية بين الرجل والمرأة، ولا يحمل أي دلالة على دونية المرأة أو نقص إنسانيتها، بل يدل على تميزها العاطفي وتأثيرها العميق على من حولها، وهي ميزة أكرمها الله بها.
وفي هذا السياق، من المهم التأكيد أن القرآن الكريم لم يذكر وجود امرأة في الدرك الأسفل من النار، بينما ذكر رجالًا مثل فرعون وهامان وقارون وغيرهم ممن بغوا وطغوا وأفسدوا في الأرض.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء: 145).
وهذا يؤكد أن معيار الجزاء الإلهي هو الإيمان والعمل الصالح، لا الجنس.
وقد يسعى البعض إلى تبرير النظرة الدونية للمرأة بالاستشهاد بخيانات وكيد بعض النساء عبر التاريخ، غير أن القرآن الكريم سجل أعظم صور الطغيان والفساد بأيدي الرجال:
- كإخوة يوسف عليه السلام الذين ظلموه وألقوه في غيابة الجب.
- وطغيان فرعون وهامان وقارون والنمرود وغيرهم.
- بينما نجد استجابة بلقيس الحكيمة لدعوة نبي الله سليمان عليه السلام بكل وعي واعتدال.
وعندما ذكر الله خيانة امرأتي نوح ولوط عليهما السلام، قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} (التحريم: 10).
وقد أوضح الإمام القرطبي وغيره أن خيانتهما كانت خيانة دينية لا خيانة عرض، إذ لم تؤمنا برسالة زوجيهما.
ومن النماذج التي تُظهر الفهم العميق لطبيعة المرأة، قصة زليخة امرأة العزيز.
فحين وقعت في خطأ، كان ذنبها ذنب حب وعشق وهيام، لا ذنب طغيان أو عداوة، واعترفت به مباشرة دون عناد أو فساد.
وقد أشار بعض المفسرين إلى أن العزيز كان عنينًا لا يأتي النساء..
وبعد توبتها واعترافها، ورد في بعض الروايات أن الله تعالى استجاب للدعاء، فردّ إليها شبابها وجمالها، وتزوجها يوسف عليه السلام، وأنجبت له ولدين، كما ذكره ابن كثير في «البداية والنهاية»، والسيوطي في «الدر المنثور»، وابن إسحاق في «السيرة النبوية».
بل إن ما يشاع ظلمًا عن «كيد النساء» ورد على لسان فرعون لا على لسان نبي أو وحي إلهي، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (يوسف: 28).
وليس هذا تقريرًا شرعيًا.
ومن المغالطات الكبرى كذلك تحميل المرأة مسؤولية إخراج آدم من الجنة، وهو زعم باطل جاء من الروايات الإسرائيلية، بينما القرآن نص صريحًا على أن: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121).
فالخطيئة نسبت لآدم، دون ذكر لحواء أو لحية.
إن هذه التصورات المغلوطة تعكس تأثر بعض المسلمين بثقافة بني إسرائيل، الذين دأبوا على تحقير الضعفاء ونصرة الأقوياء، وهو سلوك مخالف للفطرة الإنسانية السوية ومقاصد الإسلام العادلة.
وقد يُقال: إن هناك انحرافات تصدر من النساء، وهذا لا يُنكر.
لكن الإسلام لا يبرر الخطأ لأي جنس، بل يفسر الأسباب ضمن سنن إلهية عادلة. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عفوا تعف نساؤكم، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم». (رواه الطبراني وصححه الألباني).
فصلاح الرجال واستقامتهم سبب مباشر لصلاح نسائهم، كما أن الله عاقب بني إسرائيل بفساد مجتمعاتهم نتيجة ظلمهم وطغيانهم، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (المائدة: 13).
وفي شأن التفضيل، جاء قول الله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (النساء: 32).
فلا مجال للتمييز بين الرجل والمرأة في الكرامة، بل توزيع للأدوار وفق حكمة إلهية عليا.
وقد منح الإسلام المرأة تكريمًا خاصًا في دورها كأم ومربية، فجعل حقها مقدمًا على الأب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمك ثم أمك ثم أمك». (رواه البخاري ومسلم).
وأثنى على من أحسن تربية البنات، فقال صلى الله عليه وسلم: «من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن وأحسن إليهن فله الجنة». (رواه أبو داود).
ولم يذكر خصوصية مماثلة في تربية الذكور.
إن الإسلام جاء ليحرر المرأة، ويكرمها شريكة فاعلة للرجل في بناء المجتمعات وعمارة الأرض وعبادة الله.
قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: 97).