د.إسحاق بن عبدالله السعدي
أحاطت بالطفولة عبر تاريخها الطويل مشاعر الحنان والشفقة والرعاية ممثلة في الوالدين، أو أحدهما، أو بعض أجداد الطفل، أو إخوته وقرابته، بل قد ترعى الطفلَ قلوبٌ لا تصلها به سوى النزعة الإنسانية المتحضرة أو فطرة الرحمة التي وهبها الله مخلوقاته.
ولئن كان الحديث عن مظاهر العناية بالطفل وصنوف رعايته في الماضي والحاضر من الأهمية بمكان، كذلك كون الحديث عن الطفولة المعذبة التي قد يتعرض لها بعض الأطفال بحاجة لوقفات أخرى. فإن المراد بهذا الحديث استجلاء المفارقات الصارخة بين طفولة اليوم والأمس، حينما كانت الجدة بالأمس تضطلع في بيئاتٍ عدة بالنصيب الأكبر من العناية بتربية الطفل سواء كان ذلك الطفل من ناحية ابنها أو ابنتها.
كانت الجدة تقوم بدور كبير يتمثل في عنايتها بصحة الطفل وتهذيبه وتربيته وتعليمه عاكسة عليه خبرتها وتجربتها، ولعل الكثير ممن أصبحوا اليوم آباءً وأمهاتٍ لازالوا يتذكرون الحكايات الهادفة التي كانت تجري على ألسنة الجدات في السرديات التي تنمي في نفوسهم الثقة بالله أولا ثم الثقة بالذات، ويذكرون قصصاً جميلةً عن الوفاء والأوفياء والبطولة والأبطال وخلالهم الحميدة من الحلم والصدق والأناة والشجاعة والسخاء وغيرها من منظومة مكارم الأخلاق التي يتشربها الأطفال مع لبن الأمهات ورعاية الجدات.
كانت الجدة إلى عهد قريب هي التي تعتني بصحة الطفل وما يتصل بها من الرعاية والوقاية والتداوي والمعالجة إضافة لما سبق الإشارة إليه من اضطلاعها بتهذيبه وتثقيفه، كما أن الجدة كانت هي المعلمة الأولى لما يعرف اليوم (بالإتيكيت) أي الآداب العامة؛ فهذه المفاهيم المكتسبة يتشربها الطفل ويتثقف بها من خلال حديثها العذب عن مآثر أسرته وقصص روادها وسلوكياتهم المتنوعة في حالتي اليسر والعسر والرخاء والشدة، بما يرسخ في مخيلته العبقرية والبطولة التي تنتظرها أسرته ومجتمعه منه باعتبار حياة كل إنسان قصة مفعمة بالمنجزات والنجاحات هو بطلها.
خلاصة القول: تلمح هذه الإضاءة إلى قيمة كبرى وهي أصالة تربية طفل الأمس التي تضيف إلى تنمية جسمه بحليب الأم المفعم بالحنان والشعور والحياة الروحية، الاعتزاز بقيم أسرته ومجتمعه وشعوره بهويته وانتمائه، قد تند عند هذا السياق بعض الحالات الشاذة كأن يكتسب الطفل من أسرته أو بعض أفرادها نوازع الجفاء أو خشونة التعامل أو نحو ذلك من السلبيات والنقائص، ولكنها تظل حالاتٍ شاذة. أما اليوم في ظل المستجدات الزاخرة التي اقتحمت حياة الناس فإن تربية الطفل أضحت نزاعاً ونهباً لمعطيات متنوعة وربما متناقضة، فيها الخير، والشر، والحق، والباطل.
وبالنظر لدور الأم الحديثة في تربية طفلها وغياب دور الجدة وظهور الوسائل الجديدة البالغة التأثير على تربية الطفل: بدءاً بالحليب المجفف وانتهاء بأدوات الألعاب الإلكترونية وما تفضي إليه من العوالم الافتراضية، ناهيك عن انشغال الأم بأعمال إضافية زاحمت رسالتها الأساس في تربية طفلها مما جعل تربية طفلها بالنسبة لها ثانوية، وأحاقت بها إلى جانب ذلك الاتكالية ليس بارتماء طفلها في الأحضان التي ربما كانت البيئة التربوية الأنسب، بل في أحضان مربين غرباء عن طبيعته وفطرته وثقافة بيئته وجذوره، وفي كثيرٍ من الأحيان فإنَّ من تسند إليهم تربية الطفل أو الإشراف عليه ورعايته ليسوا على مستوى المربين، وإنما يحاط بخدم هدفهم الكسب المادي، تختلف طباعهم ومعتقداتهم وأفكارهم وأساليبهم في الحياة اختلافاً كبيراً عن بيئة الطفل وجنسه ومعتقده وثقافة مجتمعه الأصل، ومع أنه يستثنى من ذلك الروضات ودور الرعاية للفئات الخاصة لكون هذه المؤسسات وأمثالها لها مبرراتها ولها مواصفاتها التي يحتاط لها في العادة، ومهما تتخذ التدابير والاحتياطات فإن المعول عليه أولاً وأخيراً أسرة الطفل في رعايته وتهذيبه وتثقيفه ابتداء، فالأسرة هي المدرسة الأولى وبخاصة الأم.
ومن إبداعات شاعر النيل حافظ إبراهيم قوله:
الأم مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
عوداً على بدء يصح القول: إن الطفل في أحضان الجدة يتعلم السلوكيات المنسجمة مع واقعه وبيئته وثقافة مجتمعه وتقاليده وعاداته، وفى أحضانها ينمو وهو امتداد طبيعي لشجرة ثابتة الأصل باسقة الفرع.