د.عهود شكري الشهري
في كل عام، ومع إعلان نتائج الثانوية العامة، تتكرر ذات المشاهد لدى الطلبة وأولياء أمورهم: حيرة، قلق، ومناقشات مطوّلة حول مستقبل الأبناء والسؤال الغالب دائمًا: ما التخصص الأنسب؟ وأي جامعة أفضل؟ وبين تلك الأسئلة، يغيب سؤالٌ جوهري غالبًا: هل تُعد الدراسة الجامعية أصلاً الخيار الأمثل لكل طالب؟
الواقع، الذي بات واضحًا لكثير من التربويين والمهنيين، إن البكالوريوس لم يعد المسار الوحيد، ولا الخيار الأفضل للجميع. فقد التقيت خلال سنوات عملي الأكاديمي طلابًا كُثراً التحقوا بالجامعة بدافع اجتماعي أو عائلي، أو لمجرد كونه «الخيار المفترض»، ثم سرعان ما تعثروا، وترددوا بين التخصصات، ليضيعوا سنوات من أعمارهم دون ثمرة حقيقية، قبل أن يصطدموا بسوق عمل لا ينتظر شهادة، بل مهارة.
الدول ذات الأنظمة التعليمية المتقدمة أدركت هذه الحقيقة مبكرًا. ففي الولايات المتحدة، لا تتجاوز نسبة من يُقبلون على برامج البكالوريوس 30 % من خريجي الثانوية. أما في بريطانيا، فقد عبَّرت وزيرة التعليم عن قلقها بعد أن ارتفعت هذه النسبة إلى 33 %، لأن هذا الارتفاع يُنظر إليه كخلل في توازن مخرجات التعليم مع متطلبات الاقتصاد الذي يحتاج لمهارات تطبيقية، لا فقط مؤهلات أكاديمية.
أما في المملكة، فقد بدأت رؤية السعودية 2030 بتفعيل هذا الفهم عمليًا، من خلال إعادة هيكلة الجامعات، وتصنيفها إلى جامعات تطبيقية تركز على التدريب والمهارات، وأخرى بحثية تُعنى بالتخصصات العلمية الدقيقة. كما أُغلِقت برامج بكالوريوس لم تعد متوائمة مع الاحتياجات الفعلية لسوق العمل.
لا يعني ذلك أن الالتحاق بالجامعة قرار خاطئ، لكنه قرار يتطلب وعيًا عميقًا بالقدرات الفردية، وبطبيعة المجال المهني المنشود. فبعض التخصصات كالهندسة، والطب، والقانون، تتطلب مسارًا جامعيًا واضحًا، بينما مجالات أخرى كالبرمجة، وإدارة الأعمال، والفنون التطبيقية، قد يُفضّل فيها المسار المهني المبكر والتعلّم من أرض الواقع.
الخطأ الكبير أن يُؤجّل الطالب انخراطه في سوق العمل، ظنًا أن الشهادة الجامعية وحدها كفيلة بصنع الفرصة. كثيرون ممّن دخلوا مجالاتهم عبر الدبلومات أو برامج التدريب استطاعوا بناء مسار مهني ناجح بدأ مبكرًا، بينما بقي البعض الآخر ينتظر وظيفة تناسب شهادته التي استغرقت منه سنوات دون ثمرة.
إن النجاح اليوم لا يُقاس بعدد سنوات التعليم، بل بسرعة التكيّف مع متطلبات الواقع، والقدرة على اقتناص الفرص. لذلك، علينا كأسر ومؤسسات تربوية أن نهيئ أبناءنا لاتخاذ قرارات واقعية نابعة من وعي بقدراتهم، لا من تصورات تقليدية لم تعد تناسب عصرًا باتت المهارة فيه عملة المستقبل.
نعم، البكالوريوس ليس للجميع. لكنه ليس حكمًا سلبيًا، بل دعوة للتفكير الناضج، والانطلاق الذكي نحو مستقبل يعيد تعريف النجاح، لا وفق الدرجة العلمية، بل وفق ما تحققه من أثر وقيمة.
***
- أستاذة الرياضيات المساعدة