مرفت بخاري
دائمًا ما أجد نفسي غارقة في التفكير بعمق، أبحث عن أسباب ردود الأفعال، وعن الأثر الذي تتركه أفعال الآخرين.
أسائل نفسي: كيف أشكّل الماضي في عقلي؟ وما تأثيره على حاضري، وعلى قراراتي المستقبلية؟ في كل مرة أواجه فيها رد فعل، سواء كان داخليًا أو خارجيًا، أجد نفسي غارقة في تداعياته وأبعاده، وكأنني أعيش بين زمانين: ماضٍ لا ينتهي، وحاضر أخشى المضي فيه.
هناك فارق عميق بين الذاكرة والقدر، لا يبدو جليًا عند النظرة الأولى، لكنه يتسع كلما غصنا في المعنى، وكلما اختبرتنا الحياة.
الذاكرة هي ما تبقّى من لحظات مضت، وما نستدعيه حين نشتاق، أو نندم، أو نضحك، أو نبكي. هي ما عشناه بالفعل، بحلوه ومره، بما اخترناه وما فُرض علينا، لكنها أصبحت جزءًا منّا، لا نملك تغييره، ولا نستطيع أن ننكره، لكننا نملك رؤيته بألف زاوية، وتأويله بألف شكل.
أما القدر، فهو القادم الذي لا نعرف ملامحه، ولا نملك تفاصيله، لكنه مرسوم لنا بخطٍ خفي. هو ما لا نستطيع الفرار منه، مهما حاولنا، يمضي بنا نحو محطات لم نكن نحسبها، يغيّر في خططنا، في مشاعرنا، وربما في هويتنا، وكأن الذاكرة تَشهد، والقدر يَحكم. الذاكرة تتحدث بصوت الماضي، والقدر يهمس بما سيأتي. الذاكرة تعلّق القلب بما كان، والقدر يشدّ الروح إلى ما سيكون.
وقد يحدث أن تتصادم الذاكرة مع القدر، حين نتمسك بما مضى ونرفض ما يأتي. أو حين نحاول أن نحيا ما فات، بينما الحياة تدفعنا إلى الأمام. هنا، نحن نواجه أنفسنا في أضعف لحظاتنا، حين نقف بين الماضي الذي لا نريد التخلي عنه، والمستقبل الذي نخشاه، نعيش في تردد مستمر، وكأننا نمشي على حافة بين أفقين، أحدهما يحملنا إلى ما كان، من القهر والحسرة، والآخر يجرنا إلى ما لم نختاره بعد.
هذا الصراع يضعنا في مفترق طرق: هل نختار الحياة التي نعرف تفاصيل مدامعها، أم نواجه المجهول الذي يقودنا إلى المستقبل المشرق بأشعته الجديدة الملهمة، وبين هذا الصراع الداخلي والخوف من اتخاذ القرار، نجد أنفسنا نسير في خطوات مربكة أحيانًا، وواثقة بين الفينة والفينة، متأرجحين بين الماضي الذي يحمل قسوة تجربته والمستقبل الذي يفتح أمامنا آفاقًا جديدة ولن نصل الي منطقة الأمان الذهني حتى ندرك أن الطريق لا يسير في خط مستقيم.
أحيانًا نضطر للعودة خطوة إلى الوراء، ولكننا نكتشف أن تلك الخطوات كانت جزءًا من المسار الذي كنا في حاجة إليه. كل لحظة من الصراع، كل لحظة من الشك، تُصبح جزءًا من الصورة الأكبر التي نرسمها لأنفسنا. ما من شيء في الحياة يبقى كما هو، وكلما أمعنت النظر، تجد أن كل ما مضى قد صار مجرد جزء من القصة التي تكتبها الأيام. وعندما نرفع أعيننا نحو المستقبل، نرى أن المسافة التي قطعناها لم تكن عبثًا، بل كانت حتمية لنعرف أين نريد أن نكون؟ ومن يستحق وجودنا؟ وكيف نمحي من ذاكرتنا نقاط الضعف التي استهلكت أرواحنا مع من لا يستحق!!.
كونوا بخير.