د. محمد بن إبراهيم الملحم
هناك صور وفيديوهات انتشرت مؤخراً عبر السوشيال ميديا لمظاهر الحج قبل 60 سنة تقريباً وبعضها ربما أكثر من ذلك، وبعضها منذ العهد العثماني وبعضها منذ وقت الملك عبد العزيز والملك سعود رحمهما الله، وأهم الصور الثابتة التي انتشرت تلك التي للمسجد الحرام والمسجد النبوي القديمة جداً في العهد العثماني، فمع عدم وجود من يتحدث فيها أو يتحرك كما هو حال مقاطع الفيديو إلا أنها تقدم قصة لا يدركها إلا من يتأمل ويتعمق فيسبر أغوارها.. فقد شاهدت فيها عمارة المسجد الحرام والمسجد النبوي وكيف كانت قبل العهد السعودي، فقد تزينت بنقوش وعمارة بديعة تعكس تلك الفترة وتبين أهمية المسجد الحرام للعالم الإسلامي، ثم قارنتها بعمارة العهد السعودي وقت الملك عبدالعزيز والملك سعود رحمهما الله لأجد الفرق كبيراً والاهتمام أكبر بكثير، كما قارنت تلك العمارة السعودية الأولى بعمارة بيوتنا في الستينات الميلادية، وهي الفترة التي يمكنني أن أدركها على الأقل حيث ولدت ونشأت في هذه الشريحة الزمنية فوعيت في هذه الدنيا وأنا أرى البيوت التي نعيش فيها أكثرها من الطين وبعضها القليل من الأسمنت المسلح، ولم تكن تحظى بكثير من الزخرفة أو النقوش أو العمارة الجميلة، بينما كانت عمارة المسجد الحرام والمسجد النبوي التي قدمتها الحكومة السعودية آنذاك للعالم الإسلامي عمارة مبهرة بارتفاعها السامق واستخدام الرخام فيها وتزيينها بأجمل النقوش مما يكسبها حلة وبهاء ورونقاً يبهر القادم إليها من مدن المملكة المختلفة، وبهذا التأمل عشت حالة آبائنا وأجدادنا الذين كانوا يذهبون إلى الديار المقدسة فيشاهدون هذه المباني الشاهقة الجميلة الرائعة لتضيف هذه المشاهد إلى مشاعرهم الجياشة نحو الكعبة الشريفة مستوى آخر من المشاعر كلها دهشة وإعجاب بهذه العمارة العظيمة السامقة، لتحول المكان إلى ذكرى جميلة تظل معهم أعواماً طويلة بعد عودتهم إلى ديارهم سالمين، فتعمل هذه الذكرى وقوداً ينشط مشاعرهم وأشواقهم للعودة مرة أخرى وأخرى إلى هذا البيت الكريم.
أما مقاطع الفيديو فهي تقدم لنا قصصاً لا قصة واحدة، فهذه السيارات القديمة التي نراها عادة في متاحف السيارات تتحرك في شوارع منى ومكة والمدينة بإمكاناتها البسيطة، بينما يتعامل معها راكبوها كأنما هي فرصة لا تعوض بثمن، بل إن ركوب ظهر تلك الحافلة في الشمس والجلوس بجوار العفش كان غنيمة لكثير من الناس! وتروي لنا قلة عدد هذه المركبات أحياناً وربما مجاورتها لبعض حيوانات النقل كالجمال قصة مختلفة لبدايات استخدام السيارات (أو الشاحنات في الواقع) في موسم الحج، فنرى ازدحام الشوارع بالمشاة بكثرة كبيرة جداً نسبة إلى السيارات القليلة، ليحدثنا عن مكابدة الحاج للمشي عبر تلك الطرقات على قلة وسائل التنقل، بل إن الشوارع المعبدة بالإسفلت بكل بساطة وبالكاد يكفي ذلك الإسفلت سيارتين معاً تقدم لنا نكهة أخرى لهذه المقاطع الملهمة. ثم يأتي بعد ذلك عهد نرى فيه السيارات قد ازداد عددها وازدحمت سيارات الركاب الأمريكية (السيدان) جوار أبواب الحرم المكي لتقول لنا كيف كانت بساطة الحياة آنذاك، وتروي لنا سيناريو سهولة حركة زوار البيت ودخولهم الحرم وخروجهم منه وتنقلهم بعد ذلك عبر أرجاء مكة المشرفة.
كل هذه المشاهد الجميلة لا يمكن بعد ذلك مقارنتها بما نراه اليوم من قفزات غير طبيعية في عمارة الحرمين الشريفين وفي تجهيز أماكن المشاعر في منى وعرفة، فالمقارنة غير ممكنة بكل المقاييس إذ إن ما تحقق من بناء وطرق وخدمات وتقنيات وتجهيزات يشبه أن تقارن سرعة الجمل بسرعة الطائرة الخارقة لحاجز الصوت، وهذا يأخذني إلى ما كنت أتحدث به مع بعض أولادي عن كيف أن الحج في أيامنا هذه أسهل بكثير جداً منه في وقتنا ذاك، ولا أتحدث هنا عن مرحلة الجمال أو مرحلة تلك السيارات الأثرية القديمة، ولا حتى مرحلة السفر لمكة بالحافلات وإنما أقارنها بما كان عليه الوضع في التسعينيات مثلاً حينما كان الحج بالطائرة وكانت الحملات منظمة وتقدم خدمات مريحة، فإن الحج اليوم بما حصل فيه من تقدم كبير في استخدام تقنيات المراقبة وأسلوب التفويج وتوفر قطار المشاعر وتحسين أسلوب التنقل بين منى ومكة وتطوير هائل في أماكن السكن، كل ذلك وغيره جعل من شعيرة الحج تجربة مريحة وسهلة وميسرة جداً جداً، فشكراً لحكومتنا العظيمة وشكراً لقادتنا الموفقين في خدمة ضيوف الله، وشكراً لكل من يعمل بجد وإخلاص في مكتبه أو في الميدان لأجل تيسير حج المسلمين، وشكراً لكل إخواني المواطنين الذين يقدمون صورة رائعة للشعب السعودي لخدمة ضيوفه، وكل عام أنتم بخير.
***
- مدير عام تعليم سابقاً