د. عبدالحق عزوزي
سبق وأن نشرت مجلة فورين افيرز الأمريكية الشهيرة مقالة للمنظر فرانسيس فوكوياما عن مفهوم «الأزمات» الكبيرة التي تحدث في نظره عواقب وخيمة غير متوقعة في العادة.
فالكساد العظيم أدى إلى انبعاث النعرات الانعزالية والقومية والفاشية وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
غير أن ذلك الكساد نتج عنه لا محالة إطلاق مجموعة من البرامج الاقتصادية في أميركا عُرفت باسم «الصفقة الجديدة»، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية عظمى، وتصفية الاستعمار في نهاية المطاف.
كما أن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على نيويورك وواشنطن تسببت في تدخلين أميركيين.. وتحدث الكاتب عن النزعات القومية والانعزالية وكره الأجانب والهجوم على النظام العالمي الليبرالي التي هي في ازدياد طيلة السنوات الماضية، وفاقمت جائحة فيروس النعرات بشكل جلي.
والصحيح في نظري أن الأزمات العالمية الكبرى لا تحدث دائما إيجابيات على مستوى بعض الدول؛ ولعل أبرز مثال على ذلك الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، حيث عاش العالم صدمة قوية واضطرابا كبيرا وتغيرات مهمة أدت إلى تغير الميكانيزمات الاقتصادية والمالية الدولية؛ وهي طبعا ليست الأولى في التاريخ وإنما الأولى التي يمكن اعتبارها كونية.
ويمكن تفسير هذه الأزمة الأولى في زمن العولمة بعجز المجتمع الأمريكي عن تقديم أجور لائقة للطبقات المتوسطة، مما دفع هذه الأخيرة إلى الاقتراض لتمويل شراء منازلها وبالتالي إلى الزيادة في قيمة الأصول وفي الإنتاج، ونمو الشركات المالية وتزايد «المطلعين» الذين ينشطون هذه الشركات دون أية مراقبة من الحكومات أو المؤسسات الدولية، وهكذا حدث الغنى دون أدنى خطر بفضل التوريق (CDO) وبفضل شبه التأمين (CDS).. وجدت العديد من الأسر الأمريكية الأكثر فقرا، والتي عرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها.
وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ المالكون المثقلون بالديون في بيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفضت الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربوها «الانتحاريون» أنفسهم بمساكن مصادرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها إضافة إلى مشاكل السيولة، وانعدمت الثقة في عالم مالي واقتصادي لا يقبل غيابها، وأصبحت الأزمة كونية وبدأت الوقائع تطلعنا على حقائق لو حكيت قبل الأزمة لقيل عنها أنها من ضرب الخيال.
وأحيل القراء الأعزاء إلى فيلم مثله الممثل الأمريكي المشهور دونيرو، واسم الفيلم The Wizgard of Lies وهو صور جزءا من أكبر عملية نصب تاريخية في دولة ديمقراطية متقدمة تعج بالمراقبات المالية المتنوعة والقوانين الدقيقة، وأعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
بطل عملية النصب هاته هو السيد برنارد مادوف الذي تم اعتقاله في 11 دجنبر من عام 2008 عن طريق مكتب التحقيقات الفيدرالي بناء على بلاغ من ابنيه خوفا من أن يتابعا هما بنفسيهما إذا قاما بتغطية الحقيقة بعد اكتشافها.
وتعتبر عملية النصب تلك التي تدعى بسلسلة بونزي، عملية تم فيها النصب على ما يزيد عن 50 مليار دولار وجرت على عقود من الزمن، ولا أعرف في التاريخ البشري أكبر عملية نصب مثل هاته حيث تمت على يد شخص واحد، وكتم احتيالاته حتى عن زوجته ناهيك عن ولديه الذين كانا يشتغلان عنده.
وقد كان ممنوعا على الولدين الوصول إلى الطابق 17 هذا الطابق الذي كانت تشتغل فيه شياطين الإنس الذين يزورون ويسولون ويملون لكبار أغنياء العالم درب الاغتناء السريع والآمن.
وفي الفيلم نرى أناسا يضعون في حسابات برنارد مادوف كل ما يملكون وبملايين الدولارات ليجدوا أنفسهم ذات يوم بدون دولار واحد، ومن هؤلاء من انتحر...
من يشاهد الفيلم يبقى مبهورا من كثرة الضحايا، ومن تلك الأسماء والأبناك والمؤسسات العريقة التي راحت ضحية شخص واحد، أذكر على سبيل المثال مؤسسة جائزة نوبل إيلي ويسل، السينمائي ستيفن سبيلبرغ، البنك الإسباني (الذي خسر لوحده ما يزيد عن ملياري دولار) واللائحة طويلة...
إنه الجشع والطمع والكذب والبهتان والاستغلال، وهي فيروسات إذا تطورت داخل عالم المال والاقتصاد فلتتنبأ بفترات عجاف ستقع طال الزمان أم قصر؛ وهي تحيلنا إلى أن بعض الأزمات العالمية لا يمكن أن يستفيد منها أحد البتة، وقد تترك أثارا وخيمة على الدول والشعوب، ويحتاج التعافي منها وقتا طويلا وتعاونا دوليا مشتركا.