د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في القرن الثامن الهجري كان الوضع السياسي في البلاد الإسلامية يمر بمرحلة حرجة، فقد دخل التتار بغداد في منتصف القرن السابع، وأخذوا في التوسع نحو الشام، وأرادوا دخول مصر، لكن المماليك الذين كانوا يحكمونها صدوهم، فكانوا خط الدفاع الأول عن شمال أفريقيا وأوروبا، فتبددت جيوش التتار، واضمحلت أطماعهم، وفي القرن الثامن كانت التقلبات السياسية في الدولة المملوكية على أشدها، بسبب الصراع على الرئاسة، وفي أقصى الغرب الإسلامي كانت الدولة الإسلامية في الأندلس قد فقدت جل أراضيها، وبقيت مملكة غرناطة الصغيرة، أما الأندلسيون الذين كانوا في الديار المفقودة فقد غادروها إلى المغرب وتونس وتلمسان ومصر وغيرها، وبقي من بقي في ظل حكم بني نصر بغرناطة، وفي المغرب كان صراع الموحدين قائماً، فهناك أبو عنان وابنه وأبو سالم وبعض من الوزراء مثل أبو مرزوق، ومع هذا الوضع الصعب فإن الوضع العلمي لاسيما الشرعي والفلسفي لم يخبُ شموخه، ولم تذهب ريحه، ولم تنطفئ شمعته، بل غدت مصر مقصد العلماء من جميع أنحاء العالم، وكذلك غرناطة، وتلمسان، وتونس في ظل الحفصيين.
كان ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع قد وفد إلى مصر، بعد أن شارك في مكائد السياسة في المغرب وتونس منذ أن كان شاباً، فهو سليل عائلة مشهورة تعود في نسبها إلى الصحابي وائل بن حجر من حضرموت في اليمن، وقدمت إلى إشبيلية وقطنتها منذ بداية فتح الأندلس وساهمت في أحداثها، ويبدو أن هذا الإرث قد زرع في نفسه طبيعة التطلع إلى المعالى، ووصفه عبدالله عنان أنه انتهازي يسير على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، أي أنه ميكافيلي يطرح القيم جانباً عندما يتعلق الأمر بالمطامع السياسية، وهو القائل بعد أن كبر (شغلتنا غواية الرتب)، أو نحو ذلك، وقد اشتهر بعلمه، ومؤلفاته في التاريخ، لاسيما المقدمة لكتابه العبر، التي أصبحت فتحاً علمياً استفاد منه العالم أجمع، وهو مالكي المذهب، أشعري العقيدة، مثل سائر المغرب العربي، يميل إلى التصوف، وكان من تلاميذه المقريزي الحنبلي الذي تغير إلى شافعي، مؤرخ مصر المشهور، حاد الطبع والحكم على الأمور، لكنه رسم لنا صورة رائعة عن المجتمع الذي عاش فيه، وكذلك ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري الشافعي المذهب، كما عاصرهم العيني الحنفي المذهب، وكان الصراع بين العيني وابن حجر كبيراً، أخذ منحى غير ملائم، وأيضاً هناك عبارات تنم عن شيء ما بين ابن خلدون وابن حجر، وهذا ما دأب عليه الأقران المتعاصرون في كل زمان ومكان، وفي كل مجال من المجالات، ومثلهم ما كان بين السخاوي وتلميذه السيوطي من صراع يناقشه الباحثون حتى يومنا هذا، وقد تدخل الشوكاني العالم المتأخر عن زمانهم لينصف السيوطي، وعلينا أن نعرف أن لكل شخص جبلته وطموحه. وقد حدث مثل ذلك بين الوزير والعالم ابن الخطيب وابن خلدون نفسه عندما كان في الأندلس، لكن كان كل منها يحترم الآخر، وأوردا عن بعضهما البعض كلاماً طيباً في كتبهما.
ومنافسات الأقران تتعب النفس والقلب وقد تصرف صاحبها عن الإنتاج، أو قد تحفزه عليه، كما حدث في العصر الحديث بين مبارك دكاترة الذي أخذ أكثر من دكتوراة لمنافسة طه حسن، أو ما حدث بين محمد محمود شاكر وطه حسين. وستظل هذه الخلة قائمة بين البشر، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، أو يحدث الله أمراً غير ذلك.