منيرة أحمد الغامدي
عاصمة تُطوّر نفسها، وتُعيد تشكيل الشرق الأوسط من قلبها في قلب الصحراء، تُبنى اليوم مدينة تُشبه المستقبل أكثر من الماضي. تلك هي الرياض.
وفي زمن تتسابق فيه العواصم الكبرى على التميز، لم تكتفِ الرياض بأن تكون عاصمة سياسية وإدارية، بل أعادت تعريف ذاتها كمدينة كبرى تنبض بالإمكانات، وتُدار برؤية. ما يحدث في الرياض لم يعد مجرد مشاريع، بل ملامح تحول حضاري شامل تمضي فيه المملكة بثقة وحكمة وبقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان نحو صياغة تجربة عمرانية واقتصادية وإنسانية غير مسبوقة في المنطقة. من بيروقراطية العاصمة إلى ديناميكية المدينة العالمية إذ قبل سنوات كانت الرياض تُعرف بوصفها عاصمة هادئة، يغلب عليها الطابع الإداري الرسمي، أما اليوم فأصبحت بوتقة لتجارب حضرية معاصرة، مركزًا حيويًا لا يعرف التوقف، ولا يشبه ما كان عليه من قبل.
تحول المدينة لم يكن تلقائيًا، بل ثمرة قرارات جريئة، وتخطيطا عالي المستوى، يقوده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
في صلب البنية التحولية للرياض، يأتي مشروع مترو الرياض شبكة ذكية تعيد هندسة العاصمة كواحد من أضخم مشاريع النقل الحضري في العالم، بطول يتجاوز 176 كيلومترًا، يضم 6 خطوط رئيسية ويمر عبر 85 محطة، تربط بين الأحياء السكنية والمراكز التجارية والتعليمية والمرافق الحكومية. لكن الأهمية لا تكمن فقط في الطول والعدد، بل في ما يرمز إليه المشروع من انتقال المدينة من الاعتماد الكامل على السيارات إلى بيئة حضرية مرنة ومستدامة، تراعي الإنسان والبيئة معًا.
يوفر المترو وسيلة نقل حديثة وسريعة وآمنة، ويُتوقع أن يقلص استهلاك الوقود بما يقارب 4.2 مليار ريال حتى عام 2030، وأن يُحدث تحولًا اجتماعيًا عبر إعادة صياغة علاقة الناس بمساحاتهم الحضرية، إنه ليس فقط وسيلة مواصلات، بل ركيزة حضارية تعكس تطلع المملكة إلى مدن ذكية تُدار بالكفاءة وتحترم الزمن وجودة الحياة.
إحدى أبرز محطات التحول في الرياض تمثّلت في القرارات العقارية التي هدفت لتسهيل التملك على المواطنين من تخصيص أراضٍ سكنية، إلى تسهيل التصاريح، إلى مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص وتبلورت رؤية ولي العهد لتمكين المواطن من امتلاك منزل في بيئة متكاملة، دون التضحية بجودة الحياة أو إرهاق التكاليف، كما تم إطلاق مبادرات مثل «سكني» و»تصاريح البناء الفوري»، التي اختزلت سنوات الانتظار إلى أيام، وكان الأثر ملموسًا في تحريك السوق العقارية، وفتح آفاق تطوير حضري ذكي لا يعتمد فقط على البناء، بل على جودة التخطيط.
لم تكتفِ الرياض بتحديث البنية بل جذبت العقول إذ بقرار استراتيجي فرضت المملكة على الشركات الدولية الراغبة في العقود الحكومية نقل مقارها الإقليمية إلى الرياض ونتيجة لذلك افتتحت أكثر من 180 شركة عالمية مكاتبها في العاصمة، هذه الخطوة جعلت من المدينة وجهة للاستثمار العالمي ومركزًا حقيقيًا لصنع القرار الاقتصادي والتقني في المنطقة، وعززت مكانتها كمقر مؤتمرات كبرى مثل «مبادرة مستقبل الاستثمار»، و«LEAP»، و»قمة الذكاء الاصطناعي العالمية».
العاصمة التي لا تنام إذ لم يعد من الغريب أن تستضيف الرياض المهرجانات الموسيقية والغنائية وعروض أزياء ومعارض فنية ومهرجانات ترفيهية بحجم «موسم الرياض»، الذي استقطب ملايين الزوار من داخل وخارج المملكة.
تم إنشاء مناطق مثل «واجهة الرياض»، و»بوليفارد رياض سيتي»، لتكون مزيجًا من الترفيه والأعمال، تعكس ذوقًا عالميًا وجرأة محلية.
ولتعزيز الهوية أطلقت مبادرات كبرى كـ»الرياض آرت» الذي يستهدف إدراج أكثر من 1000 عمل فني في المدينة، مما يحوّل المجال العام إلى متحف مفتوح.
إلى جانب الاقتصاد والعمران، تم التركيز على البعد الإنساني فأنشئت حاضنات أعمال ومراكز إبداع وفروع لجامعات دولية، وتم تحويل الرياض إلى مدينة تتنفس ثقافة وابتكارًا والى مدينة تصنع الإنسان، فالمشاريع لا تخدم الواجهة فقط، بل تؤسس لنمط حياة شامل من مساحات عامة وجودة هواء وبنية صحية ومرافق رياضية تجعل من الرياض مدينة قابلة للعيش لا مجرد السكن.
التحول الرقمي كان جزءًا من المعادلة، حيث أصبحت معظم الخدمات الحكومية رقمية بالكامل عبر تطبيقات مثل «توكلنا خدمات»، وتحول القطاع الصحي والتعليمي إلى نموذج ذكي يُحتذى به.
الرياض مدينة تجذب العقول لا فقط رؤوس الأموال، فمن أبرز ما يميز رؤية الرياض الجديدة هو التركيز على استقطاب المواهب العالمية لا مجرد الاستثمارات. الرياض لم تكتف بتوفير بنية تحتية لوجستية ومالية، بل خلقت بيئة معرفية تنافسية، عبر تقديم حوافز للخبراء وتسهيل الإقامة للمبدعين وتوفير أنظمة مرنة للبحث والتطوير، وهذا التوجه يعكس قناعة بأن مستقبل المدن لا يُبنى فقط بمواردها بل بالكفاءات التي تنجذب إليها والتي ترى فيها فرصة للنمو والتأثير.
برامج مثل «استقطاب العقول»و»جذب الكفاءات النوعية» تمثل أدوات ذكية لتعزيز البعد البشري في تجربة التنمية وتحقيق التكامل بين الطاقات المحلية والعالمية.
الرياض من منافسة إقليمية إلى محاكاة عالمية فما يميّز التحول في الرياض ليس حجمه فحسب، بل نوعيته، فهي لا تسعى لمنافسة مدن عربية فقط بل تقيس طموحها على مدن عالمية مثل سنغافورة، سيول، برشلونة، وهذا يظهر في فلسفة التخطيط الحضري، والربط الرقمي والتجربة الثقافية المتعددة وحتى في طريقة تسويق المدينة دوليًا.
أصبحت الرياض في وعي المستثمر والزائر والمواطن مدينة ذات صوت عالمي تنتمي للمستقبل بقدر ما تحتفظ بجذورها التاريخية وهي بذلك لا تقترب فقط من العالمية بل تعيد تعريفها من منطلق سعودي خاص.
حياة تتغير ومواطن يعيش تحوّله وما يُحدث الفرق في الرياض اليوم ليس فقط ناطحات السحاب، بل الشعور المتنامي لدى المواطن بأنه في مدينة تُصمم لأجله من تقليص زمن الوصول إلى عمله، إلى اتساع اختياراته الترفيهية، إلى جودة الهواء الذي يتنفسه ولم تعد الحياة مجرد روتين، بل تجربة تتجدد.
مع التقدم الهائل في التنفيذ، تُرسم اليوم ملامح الرياض 2040 مدينة تقود الذكاء الحضري في المنطقة، وتكون مرجعًا في التصميم العمراني والتكامل الاقتصادي، ونموذجًا قابلًا للتكرار في مدن المملكة الأخرى فالرياض لا تكتفي بالحلم بل تنقله إلى بقية المدن.
الرياض بموقعها الاستراتيجي وتكامل بنيتها مع مشاريع كبرى مثل «مطار الملك سلمان الدولي» الذي سيكون من الأكبر عالميًا، ومشروع قطار الخليج، فإن الرياض لا تبني نفسها فقط، بل تهيئ نفسها لتكون نقطة ارتكاز إقليمي، وبوابة لوجستية بين آسيا وأفريقيا وأوروبا.
الرياض اليوم ليست مجرد عاصمة، بل تجربة تُعاد كتابتها بلغة الطموح والحداثة وهي وعد يتحقق، ومدينة تُصنع لا من الطوب فقط، بل من الحلم، ومن تصميم دولة تُراهن على المستقبل وتصنعه لتدخل بثقة من بوابة القرن.