د.عبدالرحيم محمود جاموس
تُعد الثقافة من أبرز المفاهيم المحورية التي أسهمت في تشكيل وعي الإنسان وتحديد موقعه في العالم، فهي ليست مجرد تراكم معرفي، بل منظومة حيوية تحدد طريقة التفكير، وتوجه السلوك، وتبني هوية الفرد والمجتمع.
في هذا المقال، نسلط الضوء على مفهوم الثقافة، أهميتها، مصادرها، وسبل التعبير عنها، مع التمييز بينها وبين مفاهيم مجاورة كالـمعرفة والتخصص، ثم نختم بدور المثقف بوصفه الفاعل التاريخي في تطوير الوعي الجماعي وترشيد القرار العام.
تُعرَّف الثقافة بأنها «مجموعة المعارف والقيم والعادات والتقاليد والمعتقدات التي يكتسبها الإنسان من محيطه الاجتماعي وتُشكّل وعيه وتوجه سلوكه».
وقد عرّفها «إدوارد تايلور» بأنها: «ذلك الكلّ المركب الذي يتضمن المعرفة، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، وكل ما يكتسبه الإنسان بوصفه عضوًا في مجتمع». هي مرآةٌ للهوية، وأداةٌ للتفاعل مع العالم، ومخزونٌ من الذاكرة الحية.
وتأتي أهمية الثقافة على مستوى الفرد أنها تمنحه منظومة قيمية تميّز شخصيته وتضبط سلوكه وتساعده على فهم ذاته والآخرين وتوسع أفقه وتحفّز قدرته على الإبداع والتفكير النقدي وعلى مستوى المجتمع تُشكّل رابطًا اجتماعيًا يوحّد الأفراد حول قيم ورموز مشتركة وتُسهم في ترسيخ الهوية الجمعية والانتماء الوطني وتُعزز من قدرة المجتمع على مواجهة التحديات ومقاومة الهيمنة الثقافية أما على مستوى الدولة فإنها تُعد ركيزة من ركائز القوة الناعمة وتساهم في تشكيل سياسات الهوية والتنمية والتعليم وتؤسس لخطاب وطني قادر على التفاعل مع العولمة دون ذوبان.
أما مصادر الثقافة فإنها الأسرة: أول مؤسسة اجتماعية تنقل القيم والسلوك، والمدرسة تُنظّم المعرفة وتؤطرها ضمن مناهج رسمية والدين: مصدر روحي وأخلاقي مركزي في تشكيل الضمير الجمعي والإعلام والفنون: أدوات حديثة تكرّس أو تُزعزع منظومات الثقافة واللغة والتاريخ المشترك: عنصران حاسمان في بناء الذاكرة الجماعية والهوية الثقافية وللمعرفة مصادر متعددة يمكن تصنيفها إلى أربعة رئيسية:
- المعرفة الدينية: تستند إلى الوحي الإلهي والنصوص المقدسة، وتقدّم منظومة قيمية وروحية تضبط علاقة الإنسان بخالقه وبالوجود.
- المعرفة العلمية: تعتمد على المنهج التجريبي والبحث المنظم، وتنتج من خلال العلوم الطبيعية والإنسانية، وتُسهم في تفسير الظواهر وتطوير التقنيات.
- المعرفة الفلسفية: تنبع من التأمل العقلي والنقاش المنطقي.
- المعرفة الفنية: تعبّر عن الوجدان الإنساني من خلال أشكال الجمال والإبداع (الشعر، الموسيقى، المسرح، التشكيل..) وتُسهم في تشكيل الحس الجمالي والذوق العام.
ويمكن أن نضيف:
- المهارات العملية: وهي خبرات مكتسبة تدمج بين المعرفة النظرية والتطبيق العملي، وتُعد جزءًا من ثقافة الأداء الفردي والمؤسسي.
أما طرق التعبير عن الثقافة، فتتعدد وسائل التعبير الثقافي، منها:
- اللغة والأدب (شعر، رواية، خطابة).
- الفنون (مسرح، موسيقى، تشكيل).
- العادات والطقوس والمناسبات.
- الفكر والسياسة والتعليم.
- الأنماط الحياتية اليومية (اللباس، الطعام، التفاعل الاجتماعي).
ولمعرفة الفرق بين الثقافة والمعرفة:
المعرفة: هي تراكم معلوماتي، محايد من حيث القيم، وقد يكون متخصصًا أو عامًا.
الثقافة: هي نظام من المعاني والقيم التي تحكم استخدام المعرفة وتوجهها.
فالمعرفة قد تنتج آلة، أما الثقافة فتقرر كيف ومتى ولماذا نستخدمها.
المعرفة هي «الوقود»، والثقافة هي «البوصلة».
أما الفرق بين الثقافة والتخصص فإن:
- التخصص: معرفة دقيقة في مجال معين (كالطب أو الفيزياء أو القانون).
- الثقافة: أفق فكري وإنساني شامل يربط بين العقول، ويمنح الفرد القدرة على الفهم النقدي والتحليل الأخلاقي. قد يكون الإنسان متخصصًا دون أن يكون مثقفًا، لكن المثقف لا بد أن يمتلك رؤية تتجاوز التخصص نحو أسئلة الوجود والمصير.
والمثقف الحقيقي ليس مجرد ناقل للمعلومة، بل حاملٌ للوعي، وناقدٌ للواقع، وحالمٌ بالممكن. دوره يتمثل في:
- تنوير الرأي العام ومناهضة الجهل والتضليل.
- الانحياز للحقيقة لا للأيديولوجيا.
- الدفاع عن القيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
- المساهمة في صياغة المشروع الوطني وتحصينه ثقافيًا وأخلاقيًا.
وفي أزمنة الانكسار أو الصعود، يبقى المثقف هو صوت الضمير الحي، والساعي إلى تحرير الإنسان لا إخضاعه، وتحرير الكلمة لا تدجينها.
خاتمة.. إن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية لكل من أراد أن يعيش بوعي، ويفكّر بحرية، ويُسهم في صناعة مستقبل يليق بالكرامة الإنسانية. وبقدر ما ننهض بالثقافة، ننهض بالإنسان، والمجتمع، والدولة.