عبدالعزيز صالح الصالح
يطيب لي أن أتحدث ولو بشكل قصير عن هذه المناسبة العظيمة، التي تحل كل عام في هذه الأيَّام المباركة، وفي هذه الأشهر الفضيلة كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} سورة الحج آية 27. فهذه الألوف المؤلفة من البشر، تستجيب لهذا النداء، وتطأ أقدامهم هذه الديار المقدسة التي يجد فيها القادم لهذه الأراضي المقدسة (أماناً) لا يجده في أي مكان على هذه الكرة الأرضيَّة - أماناً معنوياً يسكن الأفئدة والقلوب - وأماناً مادياً يحيط به.. فإن عبادة الحج خاصَّة، تُعد من أسمى المناهج التربوية الراشدة في بناء أفراد الأمة والجماعات على حد سواء - فالحج أعظم تجمع إسلاميِّ عالميِّ في وقت مخصوص ومكان مخصوص وانصراف في وقت مخصوص، تصاغ فيه الأمة برغم تعدد الأجناس والألوان والألسنة صياغة واحدة تتلاشى أمامها الفروق، وتتحد ألسنتها في لسان واحد، ضارع للمعبود الواحد، لبيك اللَّهم لبيك قال الشاعر الحكيم:
لله در ركائب سادت بهم
تطوي القفار الشاسعات على الدجا
رحلوا إلى البيت الحرام وقد شجا
قلب المتيم منهم ما قد شجا
نزلوا بباب لا يجيب نزيله
وقلوبهم بين المخافة والرجا
يصور الشَّاعر الحكيم في هذه الأبيات القليلة إطلالة تلك الحجيج في هذه الديار المقدسة ليؤدوا الشعائر ومناسك الحج بين الخوف والرجاء أسوة بمن امتدح الله مسلكهم وأشاد بهم في محكم كتابه الكريم، وفتح أمامهم باب الأمل إذ يقول: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} سورة المؤمنون (57 - 61). وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (سُئل النبي -صلى الله عليه وسلَّم-: أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله. قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: حج مبرور) فالحج المبرور: هو الذي لا يخالطه إثم ولا رياء فيه. وعن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج الإمام أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: (الحج المبرور ليس له جزاء إلاَّ الجنَّة). والجنَّة وما فيها من نعيم مُقيم ومقام كريم هي أمل الطائعين، وجزاء المتقين، المهاجرين إلى ربهم، الحاجين بيت الله الحرام. فالحج المبرور هو الَّذي يقترن بعفة اللِّسان، وطهر القول، وهذا أدب من رب العزة والجلال لعباده، ليتعودوا الكلمة الطيِّبة ... وقال نبيِّ الرحَّمة محمَّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه: أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه وغزو لا غلول فيه وحج مبرور). فقد علق شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- على حديث من حج فلم يرفث بقوله: الرفت اسم للجماع قولاً وعملاً، والفسوق اسم للمعاصي كلها، والجدال هو المراء في أمر الحج، فإن الله قد أوضحه وبينه وقطع المراء فيه، كما كانوا في الجاهلية يتمارون في أحكامه. فالحج وأعماله وما يبذله فيه الحاج من تضحيات إذا لم يكن مصحوباً بتقوى الله ومراقبته كان الأمر مجرد حركات آلية لا ترتفع بصاحبها إلى تزكية النَّفس وطهارتها، ممَّا يكون عاملاً على القبول والغفران والفوز والرضوان، كما قال تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة. قال الشَّاعر الحكيم:
طفت بالبيت
طمأن الله قلبي
وجُمُوع تقول
لبيك ربي
وخُشوعٌ يَلفَّني وكيَانِي
يسأل الله أن يسدِّد دربي
ودعاء... وكل نبضة عِرق
لي دُعاءٌ ينسابُ من كل صوب
يا إلهي... ماذا يؤمِّلُ عبد
غير فيض الرِّضَا ونعمَةِ قرب