د. تنيضب الفايدي
نخلة أو وادي نخلة كانت غير بعيدة من مكة المكرمة، تحيط بها الجبال ولاسيّما في الجنوب والشمال، وتقترب هذه الجبال حتى تكوّن هذا المكان (أي: نخلة) التي أخذت شهرة في السيرة؛ لأن لها علاقة بسرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما الآن فقد أصبحت جزءاً من مكة المكرمة، يطلق عليها الشرائع، بها ملعب استاد الملك عبد العزيز بمكة المكرمة.
وصف وادي نخلة قديماً بأنه وادٍ معروف يقع شمال شرق مكة المكرمة، وله مجريان، أحدهما شمالي يسمى وادي نخلة الشامية، وفي بعض المصادر سمى وادي الليمون لكثرة أشجار الليمون فيه، والآخر جنوبي يسمى وادي نخلة اليمانية، ويتصل هذا الوادي بالهدا في الطائف من وادي يسمى الكفو الذي يصبّ في وادي نخلة اليمانية.
أما وادي نخلة الشامية فهي واد طويل كثير التعرج وكثير الروافد، يبدأ من جبل الحبله، في أعلاها كان صنم العزى المذكور تاريخياً، يقول ابن هشام: «العُزّى وكانت لقريش وبني كنانة بنخلَة، وكان سدنتها وحجَّابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم». وفي أعلى الوادي ذات عرق، وللعماليق آثار كثيرة بالوادي مثل: السدود وبعض النحت في الصخور والجبال، وفي بعض البساتين ظفائر (مصدات السيل)، وبعضها تحت بساتين الوادي مطمورة، وكذلك حصن العطشان المبني في القرن السابع الهجري، وفي الوادي عينان قديمتان إحداهما البردان نسبة إلى جبل برد بالطائف، والأخرى عين تنضب انقطعت منذ مائة عام وآثارها باقية. يقول فلبي: «وبالوادي آبار غزيرة المياه حيث سيله يمتد من وادي محرم إلى حدا حيث يسيل من أعلى نخلة الشامية إلى الجموم فجدة، وبه شعاب كثيرة وأشجار وافرة».
أما وادي نخلة اليمانية فرأسها (البهيتة) وأسفلها في الزيمة، وهي طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين غزا الطائف، وأعلى مسايلها عند بلدة السيل الكبير، وتأخذ غرباً باستقامة إلى أن تجتمع بالأولى، والنخلتان متجاورتان في المنبع والمصب.
وقد جاء ذكر نخلة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن جحش الأسدي حينما أرسله إلى سرية: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف...» ولذا سميت هذه السرية بسرية نخلة، وهي أول سرية وقع الصدام فيها بين المسلمين والمشركين، وقعت هذه السرية في رجب من السنة الثانية للهجرة، حيث أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عبد الله بن جحش الأسدي إلى بطن نخلة مع اثني عشر رجلاً من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحدٌ للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش ورصد تحركاتهم في تلك الجهات، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال: سمعاً وطاعةً، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن استكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، وسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع، يقال له: بُحران أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عنه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة...».
ويظهر مما سبق أن مهمة السّرية كانت استطلاعية ولم تكن حربية، ولذلك غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عرف القتل والأسر والاستيلاء على العير من قبل أصحاب هذه السرية، قائلاً: (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا...». فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله تعالى على رسوله في ذلك (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، (217) سورة البقرة، فلما نزلت الآية أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير وفدى الأسيرين، فقال المسلمون: يا رسول الله، أتطمع لنا أن تكون لنا غزوة؟ فأنزل الله – عز وجل - فيها: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، (218) سورة البقرة.
كما جاء ذكر نخلة في سرية خالد بن الوليد إلى العزّى لهدمها، وقعت هذه السرية في رمضان من السنة الثامنة للهجرة، حيث أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - تطهير ما حول مكة من الأصنام بعد أن قضى على الأصنام التي كانت على الكعبة ومحا كل صورة بها، حتى تطهر البلاد من الوثنية ويعبد الواحد القهار، فأرسل ثلاثين فارساً لهدم العزى بنخلة حتى انتهى إليها فهدمها.
وعند عودته - صلى الله عليه وسلم - من الطائف مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وادي نخلة يقرأ القرآن، وكان في وادي نخلة جن جلسوا يستمعون القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وصف القرآن الكريم هذا الحدث، يقول تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). (29-32) سورة الأحقاف. يقول القرطبي: «حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمرّ به نفر من الجنّ، وسبب ذلك أن الجنّ كانوا يسترقون السمع فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القران فاستمعوا له وقالوا أنصتوا».
ونظراً لوقوعها في السيرة فقد ذكرها أكثر المؤرخين، يقول الحموي: «نخلة الشاميّة واديان (يقصد الشامية واليمانية) لهُذيل على ليلتين من مكة يجتمعان ببطن مرّ وسبوحة، قال ابن ولاّد: هما نخلة الشاميّة ونخلة اليمانيّة، فالشامية وادٍ ينصب من الغُمَير، واليمانيّة: وادٍ ينصب من بطن قرن المنازل، وهو طريق اليمن إلى مكة، فإذا اجتمعا فكانا وادياً واحداً فهو المسد ثم يضمهما بطن مر». ويقول البكري: «نَخْلَة: على لفظ واحدة من النَّخْل: على موضع ليلة من مكة، وهي التي ينسب إليها بَطْنُ نَخْلَة، وهي التي وَرَدَ فيها الحديث ليلة الجن.
وقال أبو زياد الكلابي: «نخلة واد من الحجاز بينه وبين مكة مسيرة ليلتين إحدى الليلتين من نخلة يجتمع بها حاج اليمن وأهل نجد ومن جاء من قبل الخط وعمان وهجر ويبرين، فيجتمع حاجهم بالوباءة وهي أعلى نخلة وهي تسمى نخلة اليمانية وتسمى النخلة الأخرى الشامية».
ويقول البلادي: «بلفظ النخل شجرة التمر: جاء في ذكر سرية عبد الله بن جحش وهما نخلتان: الشاميّة واليمانيّة، والمقصود في هذه الرواية نخلة اليمانيّة، لأنها على الطريق القديم بين مكة والطائف، وما كانت القوافل تسير بينهما إلا فيها. والنخلتان متجاورتان في المنبع والمصب، فكلاهما تأخذ أعلى مساقط مياهها من السراة الواقعة غرب الطائف، ثم تنحدران شمالاً ثم غرباً حتى تجتمعا في ملقى كان يسمى بستان ابن معمر ثم يكونان وادي مرّ الظهران».
وقال أيضاً: نخلة اليَمَانِيَّة: وادٍ فحل من أودية الحجاز، وهي إحدى شعبتي مر الظهران، يأخذ وادي نخلة اليمانية مياه هدأة الطائف، فإذا اجتمعت مياهه سمي وادي الأغراف، فإذا اجتمع معه مظلم سمي الوادي تضاعاً، ومعظمه يسمى الشرقة، ومن الشرق تأخذ سيل البوباة عند بلدة السيل الكبير وهذا من الناحية الجغرافية يعتبر رأسها، والوادي قاحل إلا في أسفله حيث توجد عيني الزيمة وسولة... ويأخذ نخلة هذه طريق الطائف القديم وطريق نجد من مكة، وهي طريق مطروقة على مرّ العصور، وهي التي سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الطائف، وهي التي أوقع المسلمون فيها بعير قريش، وقتلوا ابن الحضرمي،... وبه عسكرت هوازن يوم حُنين.
وقد وردت النخلتان في الأبيات كثيراً، قال كثير:
حلفت بربّ الموضعينِ عشيّةً
وغيطانَ فلج دونهم والشقائق
يحثُّون صبْح الحُمْر خُوصاً كأنَّها
بنخلةَ من دونِ الوحيفِ المطارقُ
لقد لقيتنا أمُّ عمرو بصادقٍ
من الصّرمِ أو ضاقت عليه الخلائق
وأنشد الأصمعي عن أبي عمرو لصخر:
لو أن أصحابي بني معاويهْ
أهلُ جنوبِ نخلةَ الشاميه
ما تركوني للكلاب العاويهْ
وقال المسيب بن علس يذكر رحيل سامة بن لؤي إلى عُمان:
فشدّ أمُونا بأنساعِها
بنخلة إذ دونها كبكبُ
وقال المتلمس:
حنّتْ إلى نخلةَ القصوَى فقلتُ لها
بسْلٌ عليكِ ألا تلك الدهاريسُ
أمي شآميّةٌ إذ لا عراقَ لنا
قوماً نودهُمُ إذ قومنا شوسُ
وقال النابغة:
ليست من السود أعقاباً إذا انصرفتْ
ولا تبيعُ بأعلى نخلةَ البُرما
وقال ذو الرمة:
أما والذي حجّ الملبُّون بيتَه
شِلالاً ومولى كلِّ باقٍ وهالكِ
ورب قِلاص الخُوص تدمَى أنُوفها
بنخلةَ والدَّاعينَ عند المناسكِ
لقد كنتُ أهوى الأرضَ ما يستفزّني
لها الشوق إلا أنّها من دياركِ
وقال كثير عزة:
حلفت برب الراقصات إلى منىً
خلال الملا يمددن كلّ جديدِ
تواهقن بالحُجّاج من بطنِ نخلةَ
ومن عزورٍ والخبتِ خبتِ طفيلِ
وقال أيضاً:
تفرّق أُلاّفُ الحجيجِ على مِنى
وشتتهم شحْطُ النَّوى مشي أرْبعِ
فريقان: منهمْ سالكٌ بطنَ نخلةٍ
وآخر منهم جازعُ ظهرَ تضْرع
وقال أبو قرعة الكناني:
أقفر من أهله مصيفُ
فبطنُ نخْلةَ فالغَريفُ
هل تُبْلغنِّي ديارٌ قومي
مهرية سيرها زفيفُ
يا أمّ نعمان نولينا
قد ينفع النائلُ الطفيفُ
أعمامُها الصّيد من لؤيٍ
حقاً وأخوالُها ثقيفُ
إنها نخلة ارتبطت بسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، كما خلدها الشعراء بذكرها لحبّهم وشوقهم إليها، ومعرفة تلك المواقع والآثار تثير العاطفة وتولد الحب لها ومن ثم الاعتزاز بها.
المراجع:
سيرة ابن هشام، مرويات سرية نخلة للحكمي، معجم ما استعجم للبكري، تفسير القرطبي، المناسك للحربي، حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - للدكتور/ محمد آل عابد، معجم معالم الحجاز للبلادي، السيرة التربوية الموثقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - للدكتور/ تنيضب الفايدي، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية للبلادي، تسهيل الوصول إلى غزوات وسرايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - للدكتور/ تنيضب الفايدي.