منصور بن صالح العُمري
ما أغرب هذا العالم!
تمدّ يدك بالعطاء، فيقولون: لماذا لم تفتح ذراعيك؟
تجود، فيسألون: ما المقابل؟
تدفع عنهم السوء، فيردون: أنتم السبب!
إنه زمن العجائب.. حيث يُتهم الكريم، ويُمنّن الجواد، ويُشكّك في المُحسن، والمملكة العربية السعودية - لأنها اعتادت أن تُعطي وتنسى - تجد نفسها الآن، أحيانًا، في موضع المتهم.. فقط لأنها لم تصرخ بما أعطت!
هل سمعتم بمن يُحاسَب لأنه لم يُذكّر بعطائه؟
إنه فصل جديد من عبث المسرح العربي.
لقد كانت المملكة، وما زالت، أكثر من دولة..
كانت كتفًا يُستند إليه، وجدارًا لا يسقط يستظل به، وخيمة يلوذ بها الهاربون من نارهم وشرّ ذويهم.
لكن يبدو أن بعضهم - حين أطفأت المملكة حريقهم - لامها لأنها لم تمنحهم شمعة!
ساعدتهم.. فقالوا: تتدخّلون.
أعرضت عنهم.. قالوا: تخلّيتم.
جادت.. قالوا: تمنّنتم.
صمتت.. قالوا: تآمرتم.
ولأنها اختارت الصمت أمام سيل التهم الزائفة، صار الصمت تُهمة.
يا لهذا الصمت الذي يُرعب!
في عالم تُدفع فيه الملايين لأجل «الضجيج الرخيص»، اختارت المملكة أن تبذل المليارات في «الظل» لتنمية مستدامة لشقيق عاجز، أو مواجهة كارثة ألقت بأحمالها فأنهكت من أصابت.
دون الحاجة إلى صور فوتوغرافية على المدرجات، ولا خُطب تذكّر بفضلها، ولا مقالات تُقايض المواقف بالهبات.
فقط.. تفعل، وتمضي.
ثم يظهر من يُحسن الكتابة، ولا يُحسن الذاكرة.
ومن يُتقن الصياغة، ولا يُتقن الشكر.
ويكتب - يا للهول - أن المملكة مطالبة باعتذار!
اعتذارٌ عن ماذا؟
عن أنها لم تُذكّرهم بما نسوا؟
أم لأنها منعت نفسها من الانزلاق إلى مستواهم، فظنّوها ضعيفة؟
إن المملكة - ولله الحمد - أقوى من أن ترد، وأكبر من أن تُمسك بسيف الكلمات الرخيصة، وهي تعرف - كما يعرف التاريخ - أن العظيم لا يُجرّ إلى الحضيض.. بل ينتشل غيره منه إن استطاع.
وما أجمل هذا الصمت حين يصدر من مقامٍ رفيع. ليس صمت العاجز، بل صمت الواثق.
صمت من يعرف أن مواقفه لا تُكتب على لافتات، بل تُقرأ في ميادين الواقع، وعلى صفحات الديون التي لا تُطلب، لكنها تُؤلم أصحابها حين لا يُوفّونها.
إنني - من هذا المنبر - أرفع شكري لقيادة هذه البلاد المباركة، الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله -؛ لأنهما يُقدّمان كل يوم درسًا جديدًا في فن الصمت الناطق، والكرامة التي لا تهتز، والحكمة التي لا ترفع صوتها.
وأقول لإخوتنا - من أولئك الذين احترفوا الحنق - إن كنتم لا تحسنون الشكر، فلا تمتهنوا الجحود، وإن كانت ذاكرتكم قصيرة، فلا تكونوا قصيري الهمة في التثبت والتبيّن. وإن كنتم لا تردّون الوفاء بوفاء، فلا تجعلوا من الإساءة مذهبًا.
عودوا إلى رشد الكلمة، ففيها منجاة، قبل أن تكتبوا تاريخًا لا يليق أن يُروى عنكم، ولا عن أجيالكم.