عبود بن علي ال زاحم
وسط ضجيج العالم وتسارع الحياة اليومية، نميل إلى الاعتقاد بأن التأثير يحتاج إلى قوة في الخطاب، أو سرعة في الرد، أو حتى هيمنة في النقاش. نعتقد أن القيادة تعني أن تكون أول من يتحدث، وأكثر من يوجّه، وأسرع من يجيب. لكن هناك مهارة واحدة، تبدو للوهلة الأولى بسيطة بل بديهية، إلا أنها حين تُستخدم بوعي، تغيّر كل شيء: الإنصات.
نعم، الإنصات. وليس المقصود مجرد أن تسمع ما يقال، بل أن تكون حاضرًا بكل كيانك. أن تستقبل الكلمات كما هي، دون أن تقاطعها أو تحكم عليها، أن تعطي الآخر مساحة يشعر فيها أنه مسموع ومفهوم. وهنا تكمن قوة هذه المهارة: في بساطتها، وندرة ممارستها بشكل حقيقي.
أتذكر قصة أحد المدراء التنفيذيين في قطاع حكومي، كان يعاني من فجوة ثقة واضحة بينه وبين فريقه. رغم أنه كان يمتلك كفاءة عالية، وخبرة طويلة، إلا أن الفريق كان دائمًا متحفظًا، لا يبادر، ولا يطرح أفكاره. خلال أحد برامج التطوير القيادي، طُلب منه أن يُجرّب تمرينا بسيطا: أن يدخل أحد الاجتماعات دون أن يتكلم خلال أول 15 دقيقة، فقط ينصت. ينظر لمن يتحدث، ويكتب ملاحظاته، دون أن يرد أو يصحّح أو يفسر. في البداية، كان الأمر صعبًا عليه. شعر أنه يتنازل عن دوره كقائد. لكنه التزم بالتجربة. وفي تلك الدقائق القليلة، حدث أمر غريب. بدأ الفريق يتحدث بثقة أكبر، وبدأت الأفكار تنساب دون تردد. أحد الموظفين قال بعد الاجتماع: «أول مرة أحس إننا نقدر نتكلم بدون ما يتم الحكم علينا». ومنذ ذلك اليوم، تغيّر حضوره كقائد. ليس لأنه قال شيئًا جديدًا، بل لأنه سَمع بطريقة مختلفة.
الإنصات لا يكلّفك جهدًا جسديًا، لكنه يتطلب شجاعة نفسية. أن تكبح رغبتك في الرد، أن تتحمّل لحظة صمت، أن تعترف ضمنيًا أن ما لدى الآخر يستحق أن يُستمع إليه. وهذا تمامًا ما يصنع القادة العظماء: ليس قدرتهم على الكلام، بل على السكون في اللحظة المناسبة. كموظف، حين تنصت لزميلك بشغف، فأنت تبني علاقة ثقة. كقائد، حين تمنح فريقك لحظة صادقة من الحضور، فأنت تبني ثقافة استماع واحترام متبادل. وكإنسان، حين تنصت دون أن تحكم، فأنت تزرع بذرة وعي في بيئتك. ربما لن يُكتب عنك مقال، ولن تُمنح جائزة، فقط لأنك أنصتّ. لكن ستشعر بذلك الأثر العميق في من حولك.. في نظرة الامتنان، أو في حوار لم يكن ليحدث، أو في فكرة تم إنقاذها من صمت صاحبها.
في زمن يُقدّس الصوت العالي، والرد السريع، جَرِّب أن تكون الاستثناء.
أن تُنصت لا لترد، بل لتفهم.
أن تُنصت، لأنك تؤمن أن لكل صوت حكاية..
وأن الفرق الحقيقي، يبدأ من لحظة إنصات صادقة.