تغريد إبراهيم الطاسان
في المدينة المنورة، حيث تهفو الأرواح وتحن القلوب، وُلد إنجاز غير مسبوق في تجسيد السيرة النبوية، لا على الورق ولا عبر الخطب والدروس، بل عبر تجربة حية تنقل الزائر إلى قلب العصر النبوي، وتجعله يعيش تفاصيل الحياة كما عاشها النبي محمد صلى الله عليه وسلم. إنه «معرض ومتحف السيرة النبوية والحضارة الإسلامية»، مشروع حضاري إنساني متكامل، يُعد من أعظم ما أُنجز في التاريخ المعرفي البصري المعاصر، ليس فقط لأنه يُحاكي السيرة النبوية بمهنية دقيقة، بل لأنه يقدّمها بلغة يفهمها هذا الجيل: اللغة البصرية الحية، التي تتحدث للعين والعقل والقلب في آنٍ معًا.
هذا المعرض في قلب المدينة المنورة، وعلى مرمى خطى من المسجد النبوي الشريف، يقف إنجاز حضاري وإنساني وعلمي بامتياز، لا يُشبه غيره من المعارض والمتاحف. ليس مجرد متحف تقليدي تُعرض فيه القطع والألواح، بل هو بوابة حيّة إلى زمن النبوة، وتجربة حسّية تُحاكي الحياة التي عاشها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكل تفاصيلها اليومية، الاجتماعية، والروحية.
تخيل أن تدخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، لا وصفًا مجرّدًا، بل بواقع ثلاثي الأبعاد. ترى الجدران الطينية، والسقف البسيط، وترتيب الأثاث، وتفاصيل المعيشة اليومية التي تعكس تواضع النبي ونقاء بيئته.
أن تتجوّل في أركانه، وترى كيف كانت معيشته، غرفة نومه، مجلسه، مطبخه، أدواته، وملابسه. أن ترى بساط تواضعه، ورائحة طُهره تملأ المكان.
ترى الجرّة التي شرب منها، والمصباح الذي أنار ليله، تشعر وكأنك تعيش في تلك اللحظة، كأن الزمن قد توقّف ليُعيدك إلى حيث بدأت الرسالة الخالدة.
لا حديث هنا عن مجرد تصور، بل عن واقع مُجسّد ببراعة علمية وتقنية تجعل الزائر يعيش الزمن النبوي كما لو كان أحد الصحابة الكرام..
ما يقدّمه المتحف ليس مجرد مشهد بصري أو مؤثرات رقمية، بل هو بناء منهجي متكامل، يعتمد على دراسات تاريخية موثقة، ومصادر علمية دقيقة، ليُعيد تقديم السيرة النبوية كمنهج حياة صالح لكل زمان، بعيدًا عن الجمود والسطحية، وبعيدًا عن التلقين التقليدي الذي بات لا يُقنع الأجيال الجديدة.
هنا، الطفل واليافع والشاب والباحث، بل وغير المسلم، يستطيع أن يرى، ويتأمل، ويسأل، ويتعلم، ويتأثر.
وما يُعزز أهمية هذا المعرض أنه يتقاطع مع أحد المحاور الاستراتيجية لرؤية السعودية 2030، والتي تولي أهمية كبرى لصناعة المحتوى الثقافي والمعرفي، وتطوير قطاع المعارض والمتاحف المتخصصة، وتحويلها إلى منصات تفاعلية تربط الأجيال بتراثها، وتُقدّم الإسلام بصورته النقية إلى العالم.
ولأن المدينة المنورة هي منارة النبوة ومهبط الوحي الثاني، فقد أولت القيادة الرشيدة عناية خاصة بأن تكون معارضها أكثر من مجرد عروض تاريخية، بل مساحات للتواصل الحضاري العالمي، وحلقات وصل تربط بين الماضي والمستقبل، بين الرسالة والواقع، بين السيرة والإنسان.
ومن هنا جاءت فكرة إنشاء هذا المعرض تحت إشراف رابطة العالم الإسلامي، ليكون نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه الرسالة الإسلامية حين تُقدَّم للعالم بلغة معاصرة، مؤثرة، وموثوقة.
فالسيرة هنا لا تُعرض بلغة عربية فقط، بل تُترجم وتُصاغ وتُعرض بعشرات اللغات، وبوسائط متعددة، لتكون مفهومة للجميع، مهما اختلفت ثقافاتهم أو أديانهم.
وهذا يُعزّز هدف المملكة في تقديم الإسلام بصورته العالمية الرحيمة، كما كان عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا كما يُصوّره المتعصبون أو الجاهلون.
ومع تسارع المتغيرات في العالم الرقمي والبصري، بات من الضروري أن نُخاطب هذا الجيل بأسلوبه. فجيل اليوم لا يقرأ كثيرًا، لكنه يرى كثيرًا، ويتفاعل بصريًا بشكل أسرع وأعمق.
ولهذا فإن تقديم السيرة النبوية عبر هذه النوافذ البصرية الحديثة يُعدّ خطوة ذكية واستراتيجية نحو تعليم الأجيال سيرة النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها منهاجًا أخلاقيًا وتربويًا وسلوكيًا وإنسانيًا، لا مجرد أحداث تاريخية جامدة. بل إن هذه الطريقة في التعليم أصبحت اليوم من أكثر الوسائل فاعلية في بناء الفهم، وتثبيت المعرفة، وتعزيز القيم.
الزائر لا يخرج من المتحف بذات العين التي دخل بها. شيء ما يتغيّر فيه. قد تكون دمعة، أو دهشة، أو دعاء، أو حنين. لكنه يخرج وقد اقترب من نبيّه أكثر، وفهم رسالته بعمق، وشعر بإنسانيته، ولامس عظمة بساطته. وهذا هو المقصود.. أن نُقدّم النبي صلى الله عليه وسلم للناس كما كان: بسيطًا، صادقًا، رحيمًا، قائدًا، وأبًا وأخًا ومعلمًا، لا كما يُشوّه صورته الجهل أو الغلو أو الكراهية.
وفي هذا السياق، يمكن القول بثقة إن «متحف السيرة» في المدينة المنورة لا يُعد فقط إنجازًا بصريًا أو هندسيًا، بل هو وثيقة حيّة، ومدرسة معرفية عصرية، ومنصة إنسانية عابرة للثقافات.
ولإننا في زمن تتكاثر فيه التحديات الثقافية والمعرفية، يأتي متحف السيرة النبوية كأحد أهم مشاريع العصر في صناعة الوعي والارتباط بالقدوة. إنه ليس متحفًا، بل مدرسة حيّة للقلوب والعقول، تسكب في النفس محبة النبي صلى الله عليه وسلم من غير خطابة، وتشرح حياته من غير تعقيد، وتفتح أبواب الفهم دون اشتراطات لغوية أو ثقافية.
إنه بحق، أعظم إنجاز بصري معرفي في المدينة المنورة، يحمل رسالة كونية عن الرحمة المهداة، ويمنحك فرصة لا تتكرّر:
أن تعيش السيرة كما لم تعشها من قبل..
وأن تقول بكل يقين: لقد شعرت وكأنني كنت هناك، في بيت النبي صلى الله عليه وسلم
إنه هدية المملكة للعالم، ورسالتها في أن الحضارة تبدأ من القيم، وأن السيرة النبوية ليست قصة ماضية، بل مشروع حياة.