عبدالله صالح المحمود
بين تنوع جغرافي يمتد من الحجاز إلى نجد، ومن الجنوب إلى الشرق، تحمل اللهجات السعودية في طيّاتها روافد من التاريخ والثقافة المحلية.
لكن في ظل تسارع العولمة، بدأ كثير من هذه اللهجات يواجه خطر التراجع أو النسيان. ولأن اللغة مرآة للهوية، دخلت التقنية على الخط في السعودية لتسهم بفاعلية في جهود التوثيق، التحليل، والنشر، ضمن رؤية وطنية تحتفي بالموروث وتواكب العصر.
أطلق مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية مبادرة «مدونة أصوات السعودية»، والتي تُعد من أكبر مشاريع التوثيق اللغوي للهجات المحلية.
يشمل المشروع تسجيلات من أكثر من 40 منطقة سعودية، تُوثَّق فيها لهجات من مختلف الأعمار والفئات، اعتمادًا على تقنيات صوتية متقدمة، وتدعم المنصة الرقمية «فلك»هذه الجهود من خلال أدوات تفاعلية مثل «الجدارية الصوتية»، التي تتيح عرض تسجيلات للهجات مصنّفة بحسب المناطق. على سبيل المثال، تنقل اللهجة الحجازية روح التجارة البحرية، فيما تعكس اللهجة النجدية أنماط حياة الصحراء، ويظهر في اللهجات الجنوبية عمق الارتباط بالطبيعة الجبلية.
لا تتوقف الجهود على اللهجات المحكية فقط، بل تمتد إلى اللغات القديمة مثل الثمودية واللحيانية، التي ما زالت منقوشة على صخور مدائن صالح. وتُجرى حاليًا أبحاث باستخدام تقنيات المسح الرقمي والتحليل اللغوي لفك رموز هذه النقوش وفهم مدلولاتها التاريخية، وهو ما يعيد لهذه اللغات حضورًا بحثيًا وثقافيًا جديدًا.
الشعر الشعبي يُعد أحد أبرز الحوامل الثقافية للهجات السعودية، ويؤدي دورًا محوريًا في توثيقها ونقلها عبر الأجيال، ومن القصائد القديمة إلى إنتاجات شعراء معاصرين، تستمر المفردات المحلية في الظهور والنمو. وفي ظل توسع الإعلام الرقمي، برز عدد من المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعي ممن يتحدثون بلهجاتهم الأصلية، ويوظفونها في محتوى يومي أو فكاهي أو ثقافي، ما يعزز تداولها ويحفظ حضورها، وهو توجه يحظى باهتمام وتشجيع متزايد.
رغم بعض المحاولات التلفزيونية التي قدمت لهجات متعددة ضمن المسلسلات والبرامج، لا يزال دور الإعلام التقليدي والحديث بحاجة إلى تفعيل أوسع في إبراز اللهجات المحلية. فالتنوع اللهجي ليس مجرد عنصر زخرفي، بل هو جزء من الهوية الوطنية الثقافية، ويستحق أن يظهر ضمن النصوص الدرامية، البرامج الوثائقية، والمحتوى التفاعلي على المنصات الرقمية.
أسهمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في فتح آفاق غير مسبوقة أمام حفظ اللهجات. إذ يمكن عبر نماذج التعلم الآلي تحليل آلاف التسجيلات الصوتية، واستخلاص السمات الفونولوجيا والمفرداتية لكل لهجة، كما يمكن تطوير تطبيقات تحوّل النص إلى كلام بلهجات سعودية، أو روبوتات محادثة تتفاعل بلهجة محلية، ما يجعل هذه اللهجات جزءًا من تجربة المستخدم اليومية في التعليم أو الخدمات أو الترفيه.
رؤية السعودية 2030 تضع الثقافة والهوية الوطنية في صميم التحول الاجتماعي والتقني، وهو ما ينعكس في الدعم الموجه للمبادرات اللغوية، سواء عبر التمويل، أو عبر دمج هذه المشروعات في مسارات التعليم، والسياحة، والاقتصاد الإبداعي. ومع تطور تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز، قد يصبح بإمكان الزائر أو الطالب في المستقبل أن يخوض تجربة محاكاة تفاعلية يتحدث فيها مع أهل قرية نائية كما كانوا يتحدثون قبل قرون.
التراث اللغوي ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو ذاكرة وطن، وشيفرة ثقافية تحمل ملامح الأرض والناس. ومع دخول التقنية على الخط، تثبت السعودية أن الحفاظ على هذا الإرث لا يتعارض مع التطور، بل يتكامل معه في مشروع وطني يحتفي بالماضي ويبنيه للمستقبل.