أحمد المغلوث
فيما مضى من زمن وكنت أيامها في الثانية عشرة من عمري، وبيتنا الذي بناه والدي -رحمه الله- بعد هدمه لأربعة بيوت كان أصحابها من مشاهير صناع نسيج البشوت، وجميعها كانت ملاصقة لسور المبرز من الغرب والجنوب، بل كانت الزاوية الجنوبية تشكل البرج الأخير في السور، ونظراً لكبر مساحة الأرض التي تخلفت عن «الهدم» أبقى» على ما بين الجهة الشرقية من الأرض أحدهما في الجهة الغربية والجنوبية والثاني شمالي شرقي، وكل باب كان يفتح على طريق يؤدي إلى شرق المدينة وصولا لسوق «الجلعة» بالقرب من سوق القيصرية حيث كان سوقاً شعبياً «الأربعاء»، وبعد أن قام والدي وهو رجل أعمال بل تعلم في شركة أرامكو مثله مثل الآلاف من العمال الذين التحقوا بالشركة في بداياتها، وكانت تتيح لهم العمل في مختلف الأقسام بالشركة.
كل ذلك كان يحدث تحت رقابة ومتابعة من قبل المشرفين عليهم، ومن خلال اكتشاف المتميز منهم يتم إما تكليفه بالعمل في هذا القطاع أو ذاك، وبالتالي بدأ والدي في بناء بيتنا الثاني الذي بات له أربعة أبواب شرقية وغربية والبناء كان بالطابوق والأسمنت، وكانت البيوت الأربعة التي تم هدمها أحدهم كان متميزا بوجود غرفة سقفها مرتفع ومبنية بالجس، وفيها نوافذ علوية وطلبت من والدي بعدما قبلت رأسه ألا يهدم هذه الغرفة «المربعة» ويتركها لي لتكون غرفتي ومرسمي، وكنت قد بدأت أرسم خلال هذه الفترة العمرية اللوحات التجارية لبعض المحلات فتبسم والدي وقال أبشر وفكرتك عين الصواب، ولولا الغرفة شرق البيت لجعلتها مجلسا فهي والحق تستاهل أن يحافظ عليها متميزة وتستاهلها وتمضي الأيام وانتهى البناء، وكنت أتردد على الغرفة التي حولتها إلى مكاني المفضل بل وغرفة مراقبة لعمال البناء، وكلهم سعوديون تلك الأيام لم نعرف بعد «عمالة» أجنبية.
وبعد شهور انتقلنا إلى بيتنا الجديد بعدما تركنا ذكرياتنا في بيتنا القديم بحي«السياسب» أشهر حي بالمدينة الذي لا يبعد إلا خطوات من جامع الإمام فيصل بن تركي الذي تقع أمامه قيصرية المدينة.. وكان الوالد يعمل خارج المدينة ولا يعود إلا بعد عدة أيام.
وبحكم أن بيتنا الجديد كان مثل الكثير من بيوت المدينة يشتمل على حظيرة فيها بقرة ومجموعة من الدجاج البياض وعدد من الماعز، وبالتالي كنت أقوم شبه يومي بعد صلاة العصر إلى التوجه من الباب الشرقي متجها لسوق «الجلعة»، حيث تباع فيه كل ما يحتاجه المواطن في المدينة من أعلاف خاصة «البرسيم» والورقيات والخضار، وفي أحد الأيام شاهدني والدي وأنا أتصبب عرقا وعلى رأسي «عقب» البرسيم وفي يدي اليمنى خبز التمر الأحمر ملفوفا في فوطة مقلمه. شاهد ذلك وهو قادم من الباب الغربي فهز رأسه، وهو يردد عفيه عليك وبارك الليه فيك. وفوجئت ضحى اليوم التالي بوالدتى -رحمها الله- تنقر باب غرفتي وتقول لي بعدما فتحت لها الباب مبروك وابتسامتها تسبق كلماتها اطلع: طالع اللي جابه لك أبوك، وكانت مفاجأة كانت عبارة عن «سيكل» ريلي لونه أخضر وكدت أطير من الفرح، وبعد أن أن عاد والدي للبيت قبلت رأسه ويده شاكرا.. وما هي الأيام وإذا بي أذهب لمحل «سياكل» شهير على بعد خطوات من قصر صاهود متخصص في تزيين «السياكل» وأطلب منه أن «يسف» السيكل بألوان اخترتها وبمبلغ لايتجاوز الخمسة ريالات. كانت في ذلك الزمن عن خمسين ريالا ومن يومها بت أذهب إلى السوق البرسيم في «الجلعة» لأشتري لوازم البيت، وكذلك إلى مخبز «الشعلان» الشهير بل وحتى إلى عين الحارة شمال المدينة. كانت أياما لا تنسى.. تذكرت ذلك وأنا أشاهد بعضا من لوحاتي عن «السيكل الأخضر» وقفة الرطب.