د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
يُجمع خبراء التاريخ العسكري على أن المعلومة الاستخباراتية الدقيقة هي ركيزة النصر، لا كثافة النيران ولا ضجيج الجيوش. فمنذ أن صاغ المفكر الصيني سون تزو مبادئ التفكير الإستراتيجي، بات واضحًا أن الحسم في النزاعات لا يتحقق بالتكتيك العسكري وحده، بل برؤية استخبارية تسبق المعركة وتوجّه مسارها بدقة.
هذا المفهوم تجلّى بوضوح في الضربات الإسرائيلية الأخيرة داخل العمق الإيراني. سواء نُفذت عبر طائرات مسيَّرة، أو فرق ميدانية خاصة، أو هجمات إلكترونية معقدة، فإن جوهرها لم يكن عسكريًا صرفًا، بل ثمرة عمل استخباري طويل المدى، أثبتت من خلاله هذه العمليات أن من يمتلك المعلومة يمتلك زمام المبادرة، ويستطيع أن يُلحق الضرر بخصمه في عقر داره، دون أن يُطلق طلقة عبثية واحدة.
لقد وفرت البيئة الإيرانية الداخلية أرضًا خصبة لأعمال الاختراق والتجنيد الإسرائيلي، فالصراع بين المؤسسات المتداخلة في النظام الإيراني قد خلق نقاط ضعف خطيرة في منظومة الدولة. فكل تيار يعمل لحساب مصالحه، وأحيانًا ضد التيارات الأخرى، مما فتح ثغرات استخبارية واسعة تسلَّلت منها الأجهزة الاستخبارية مثل «جهاز الموساد».
ومن ناحية أخرى، لا يمكن إغفال أن الضغوط الاقتصادية والمعيشية داخل المجتمع الإيراني، الناتج عن العقوبات المتراكمة، والذي أضعف مناعة الدولة الأمنية، ففي مثل هذه الظروف، تزداد قابلية الأفراد في مختلف المؤسسات المدنية والعسكرية للتأثر أو الاستغلال، سواء بدوافع مالية أو أيديولوجية أو انتقامية. وهذا هو ما تبحث عنه أجهزة الاستخبارات المتقدمة في نقاط الضعف الفردية داخل البنية النظامية، لتحقق الاختراق من الداخل المنظومة بأقل تكلفة وأدق الوسائل.
لم تكن الضربات الإسرائيلية عشوائية، بل كانت مبنية على معرفة دقيقة بالأهداف التي هاجمتها كالمواقع النووية، ومنشآت القيادة، والشخصيات المحورية العسكرية والسياسية ودوائر عقد القيادات العليا اجتماعاتهم السرية. والأهم من ذلك كله هو تقييمها المستمر لموثوقية معلوماتها السابقة، لتحسين الأداء في الاستهدافات التالية، كما ظهر في عمليات اغتيال العالم النووي فخري زاده، واستهداف منشآت «نطنز» و»بارشين»، وغيرها.
إن عدم القدرة على التصدي لهذه الاختراقات المتكررة لا يعكس فقط ثغرات تقنية، بل يكشف خللاً بنيويًا أعمق في منظومة التنسيق الأمني. فعندما تُختزل الاستخبارات في خدمة تيار سياسي أو عقائدي معيَّن، بدلاً من كونها أداة وطنية شاملة، فإن الدولة كلها تُصبح جدارًا هشًّا يمكن اختراقه مرارًا، حتى من دون حرب نظامية.
لقد تغيَّرت معادلات القوة في الحروب الحديثة. فالميزة لم تعد لمن يمتلك أكبر ترسانة، بل لمن يمتلك القدرة على معرفة ما لدى عدوه، ومتى وكيف يستخدم تلك المعرفة، فالجيوش التي تفتقر إلى منظومة استخباراتية فعَّالة، مهما بلغت قوتها، تبني مجدها على أسس هشة. أما من يملك المعلومة، ويُحسن توظيفها في التوقيت والمكان المناسبين، فهو من يرسم النهاية قبل أن تبدأ الحرب.