د.محسن بن علي الشهري
في عالم يزداد تعقيداً بسبب الصراعات الفكرية والثقافية يبرز الأمن الفكري بوصفه حصناً منيعاً لحماية هوية المجتمعات، وأرضية صلبة لبناء قوى ناعمة فعَّالة، بينما تمثِّل القوى الناعمة أداة لنشر هذه الهوية من القيم الإيجابية وتعزيز الانتماء. فكيف يتكامل هذان المفهومان لتحقيق الاستقرار والتأثير؟ يستعرض هذا المقال العلاقة بين الأمن الفكري والقوى الناعمة ودورهما في بناء مجتمعات قوية ومؤثِّرة.
ولعرض الأفكار بطريقة منطقية نبدأ بإيضاح المفاهيم ثم بيان الوشائج بينهما.
يعرّف الأمن الفكري: بأنه السياج المانع من تسرّب الشبهات والافتراءات التي تهدِّد أمن واستقرار المجتمع، وركائز تقدمه وازدهاره. وظاهر من التعريف المساق بأنه يتكون من شقين: الشق الأول: حاجز وحماية، والثاني: تقدم وازدهار. أما القوى الناعمة: فهي الأساليب المؤثّرة القائمة على الجذب والإقناع لا الإكراه لإحداث قبول واستجابة، وتكون عن طريق التعليم، والفن، والثقافة، والتقنية، والإعلام، والعمل التطوعي، والمطاعم، والماركات العالمية. وعلى ما تقدّم فحيث يكون الأمن الفكري مكيناً في مجتمع ما يحمي المجتمع من الأفكار الهدَّامة فإنه يتيح بناء هوية راسخة لتصبح هذه الهوية أداة فاعلة للقوى الناعمة، وقادرة على إحداث الجذب والتأثير.
تشهد المملكة العربية السعودية صعوداً ملحوظاً للقوى الناعمة من خلال تطوير المناهج التعليمية التي تعزّز من قيم التسامح، والاعتدال، والانفتاح في ظل القيم الإسلامية، وهذا من شأنه أن يعزّز المكانة العلمية ويعكس صورتها بنظرة إيجابية، وفي السياق التعليمي لنهوض القوى الناعمة ما يُقدم من برامج المنح الدراسية مثل برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث مما يبني علاقات ثقافية طويلة الأمد، وكذلك إنشاء فروع للجامعات العالمية أو المحلية بمعايير دولية؛ لتعزيز التأثير الأكاديمي، ومن القوى الناعمة في التعليم الاستثمار في التعليم الرقمي؛ لنشر المعرفة والثقافة، ومن ذلك ما كان من إنشاء منصة مدرستي التي تعد من الأفكار الرائدة عالمياً في التحول الرقمي للتعليم، إذ توفر المنصة بيئة افتراضية مخصصة وتفاعلية للعملية التعليمية، كما أن التعليم اتجه وفق رؤية المملكة 2030 إلى تطوير مهارات الشباب وتعزيز الابتكار. وفي مجال الاقتصاد تبرز القوى الناعمة في دعم الشركات الناشئة والتكنولوجيا التي تهتم بالذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة؛ لجذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز صورة الدولة بوصفها مركزاً اقتصادياً مرموقاً، كما طُورت مشاريع سياحية كبرى مثل نيوم والعلا وغيرها من المشاريع الواعدة، واستضافة قمم G20 لتعزيز التأثير الاقتصادي، واستضافة معرض إكسبو 2030، واستضافة كأس العالم لكرة القدم 2034، وكذلك ترويج العلامات التجارية لمنتجات وطنية مثل أرامكو أو المنتجات الثقافية بوصفها جزءاً من الهوية الاقتصادية والقوى الناعمة.
وتبرز هذه القوى الناعمة بما تقدمه المملكة من مساعدات إنسانية عبر مركز الملك سلمان للإغاثة، لشتى البلدان في أنحاء العالم، مما يعزِّز صورتها بصفتها دولة مؤثِّرة، ولا يخفى وساطتها في بعض النزاعات الإقليمية والدولية مما يعزِّز صورة المملكة بوصفها قوة سلام، كما استخدمت دبلوماسيتها لاستضافة مؤتمرات دولية مثل قمة العشرين 2020 .
ختاماً في خضم عالم يتسارع فيه وتيرة التغيرات الفكرية والثقافية تتجلى أهمية الأمن الفكري كدرع واقٍ يحمي هوية الأمم ويصون تماسكها، بينما تبرز القوة الناعمة كجسر يربط بين الشعوب، وينشر قيم الوسطية والتسامح، ويعزِّز التأثير العالمي، إن المملكة العربية السعودية من خلال رؤيتها الطموحة 2030، تجسد نموذجًا رائدًا للتكامل بين هذين المفهومين، حيث تستثمر في التعليم، والاقتصاد، والسياسة، والرياضة، وغيرها من المجالات لتعزيز أمنها الفكري وتوسيع نفوذها الناعم، فنهجها المتوازن لا يقتصر على حماية المجتمع من الأفكار الهدامة، بل يمهد الطريق لتحقيق استقرار مستدام وتأثير عالمي متميز، فالأمن الفكري والقوة الناعمة رافدان لعالم أكثر انسجامًا وتقدمًا، حيث تتآزر الأفكار والقيم لبناء مستقبل يعكس طموحات الأمم وتطلعات شعوبها.