منال الحصيني
لسنا بحاجة إلى من يؤذينا من الخارج، حين تكون بعض أفكارنا كفيلة بأن تحاصر وعينا من الداخل، فثمة ما يتراكم في العقول بصمت، يُردّد كأنه حكمة، ويُعامل كأنه حقيقة، بينما هو في جوهره أقرب للنفايات الفكرية التي لم تُراجع ولم تُنقّح، لكنها تُورَّث وتُكرَّر حتى تزداد سُمّيّتها مع الزمن.
النفايات العقلية ليست أفكارًا مُدمِرة، لكنها أفكار استُهلكت حتى بليت، واستمر تداولها حتى صارت عادة، دون أن تمرّ على ميزان المنطق أو سؤال اللحظة:
هل ما زالت تنفع؟
نسمع بعضهم يقول: «جيل اليوم غير قادر على تحمل المسؤولية». وقد قيلت مثلها عن جيل الأمس، وقبلهم عن جيل ما قبل التقنية، وما قبل التعليم، وما قبل الطباعة والتاريخ يعيد نفسه، والغريب في الأمر أننا نكرّر العبارة وكأن كل جيل وُلد ليخيب أمل من قبله، بينما الحقيقة أن الحياة لا تتراجع، بل تتغير… ومن لا يتغير معها، يراها كسراً للمألوف.
حين نحاكي الجيل الجديد بلغة هجومية قديمة، فنحن لا نحمي القيم، بل نُعيق الفهم.
وعندما نصف التقنية بأنها سبب فساد القيم، فنحن نغضّ الطرف عن مسؤوليتنا في بناء وعي يُحسن استخدامها بدل أن يخشاها.
الفتاة التي تختار تخصصًا غير تقليدي ليست ضحية ثقافة دخيلة، والشاب الذي يعبّر عن نفسه عبر الإنترنت وفق ضوابط شرعية لا وفق ضوابط موروثة فليس كل موروث جاء به الشرع حقاً يعني أنه بلا مسؤولية.
والكثير من الأمثلة التي طرأت مجدداً بتنا نستنكرها لكونها مستحدثة ونلقي اللوم على جيل سيواصل المسيرة بالنقص وعدم تحمل المسؤولية لكونه ولد في زمن رقمي منعّم وتناسينا أننا ولدنا في زمن الكهرباء ونسب لنا الترف ممن سبقونا ليس لجهلهم بل لأن كل جديد يبدو مريباً، فكل اختراع يولد.. يولد معه جيل جديد ورؤية جديدة والمشكلة ليست في التغيير عينه بل في العجز عن همه.
لكن النفايات العقلية، حين تتراكم، تجعلنا نُسيء الظن بكل جديد، ونُدافع عن أفكار قديمة وكأنها وحي لا يُغيّر، فقد ذكر الفيلسوف جون ديوي بأن»الناس لا يغيرون أفكارهم عندما يُقال لهم الحقيقة، بل عندما يشعرون أن الفكرة القديمة لم تعد تُجدي.»
وهنا جوهر المسألة، لسنا ضد الماضي، لكن الماضي ليس معيارًا أبديًا.
نحن أنفسنا انتقدنا من سبقنا، واعترضنا على بعض ما ورثناه، وعدّلنا فيه.
فلماذا نخشى أن يُعاد النظر فيما نطرحه اليوم؟
لماذا نغضب من التساؤل؟
لماذا نعتبر التغيير خيانة؟
النفايات العقلية ليست حكرًا على جيل دون جيل، ولا طبقة دون أخرى.
فهي تتسلل إلى خطاب الأب الذي يُحب أبناءه، لكنه يقيّد اختياراتهم خوفًا من «الناس».
وتظهر في المدرسة التي ترفض التجديد بحجة «المستوى انحدر»، دون مراجعة أدواتها.
وفي الموظف الذي يعطّل المبادرات لأنه يرى أن «الروتين أضمن».
وفي المسؤول الذي يفضل تكرار ما فعله غيره، بدل أن يغامر بفكرة تناسب زمنه.
كل هؤلاء ليسوا خصومًا، لكنهم بحاجة إلى إدراك بسيط:
إن ما كان ينفع قديمًا، لا يعني بالضرورة أنه يصلح الآن.
وأن ما نراه اليوم غريبًا، قد يصبح غدًا أمرًا مألوفًا، بل ضروريًا.
فقد رفضت المجتمعات من قبل تعليم البنات، ورفضت وجود المرأة في العمل، ثم عادت اليوم تحتفي بتميّزها في كل حقل.
وهكذا هي الحياة، لا تكف عن مراجعة نفسها.
النظافة الذهنية لا تقل أهمية عن النظافة الجسدية.
تمامًا كما نختار طعامنا، وننتقي ما نلبس بعناية، علينا أن ننظّف عقولنا من العبارات الموروثة التي تُقال لا لشيء، إلا لأنها «قيلت».
علينا أن نملك شجاعة أن نسأل:
من أين جاءت هذه القناعة؟
هل ما زالت تناسبني؟
هل تخدمني أم تقيدني؟
فالعقل النظيف ليس الممتلئ، بل القادر على التخلّي عمّا لم يعد ينفع وفق ضوابط الشرع.
والقيمة لا تُقاس بثباتها، بل بقدرتها على أن تبقى حيّة، في زمن يتبدل كل يوم.
والحقيقة أن ديننا صالح لكل زمان ومكان، ولم يكن يوماً حبيسا لقرون مضت، فهو منهج حي لم تتغير فيه القيم ولكنها الوسائل المتغيرة فهو لايقدّس العادات الموروثة لكنه يعلو عليها بالعقل والوحي فما وافق العقل قُبل وما خالفه تُرك ولو تباهى به الأسلاف.