عايض بن خالد المطيري
الماء في المشاعر المقدسة حاضر في كل ركن؛ لا يُطلب، بل يُفرض؛ لا يُعطى، بل يُغرق الحاج في عروضه. ومع كل موسم حج، تتحوّل قوارير المياه البلاستيكية من نعمة إلى عبء، ومن «سُقيا» إلى أزمة بيئية تتكرر سنويًا دون أن تجد حلاً جذريًا، رغم وفرة الحلول وعقلانيتها.
سبعون مليون عبوة بلاستيكية، بحسب دراسة بحثية حديثة، هو الرقم الفادح لعبوات المياه المستهلكة في موسم حج واحد فقط. فائض توزيع لا يقابله فائض احتياج، بل فائض نفايات. عبوات كثيرة تُرمى وهي ممتلئة، تتكدّس على الطرقات، وتتعثّر بها الأقدام، أو تتحوّل إلى طوفان من البلاستيك يسد المجاري، ويخنق النظافة، ويُرهق فرق الخدمات.
اللافت أن «سُقيا الحجيج» أصبحت مجالًا لتسويق لا يرحم، وفرصة للكسب المادي الضخم من قِبل شركات المياه، والمسوق: الجمعيات الخيرية. ففي كل موسم حج، تزدحم مواقع التواصل بحملات الإعلانات وطلب التبرع لسقيا الحاج، وتتحوّل إلى ساحة تنافس بين شركات المياه. كل شركة تزهو بأنها «الأسبق» إلى العطاء، وكأن عبواتها التي تُرمى في الغالب هي المكيال الوحيد للتنافس.
لقد برزت مبادرة وزارة البلديات، ممثلة في أمانة العاصمة المقدسة، كخطوة واعية نحو قلب المعادلة: سُقيا بلا عبوات. مشروع البرّادات الحديثة في المشاعر بدأ فعليًا، مصممًا بعناية هندسية، ويقدّم مياهًا مبردة بدرجة 6 مئوية من دون نفايات. هدفه واضح: توفير الماء، وحفظ البيئة، وتقليل استخدام البلاستيك. لا شعارات هنا ولا صور متصدّرة في الإعلانات، بل حل عملي وذكي.
كذلك هناك دراسة أعدّتها وأشرفت عليها جامعة الملك عبدالعزيز، وقدّمت توصياتها، لم تكتفِ بتشخيص العلّة، بل وصفت العلاج البديل. وهو عبارة عن حافظات مياه تُوزّع على الحجاج، مصنوعة من مواد عازلة تحفظ البرودة لساعات طويلة، وتحمل طابعًا تذكاريًا يعزّز من قيمتها المعنوية. تُغني عن القوارير، وتغري بالاحتفاظ بها. تذكار جميل، وبديل عملي، وأثر نظيف.
أيضًا، ثمّة اقتراحات طُرحت كتطوير شبكات محطات تعبئة موحّدة الشكل، موزعة على كامل المشاعر، سهلة الاستخدام، صحية، مزوّدة بحسّاسات تمنع الهدر، ولا تُستخدم للوضوء أو غسل اليدين، لتقنين الاستهلاك. ولعل أذكى ما في هذا الطرح أنه لا يتطلّب بنية تحتية جديدة من العدم؛ فالماء موجود، والتبريد متاح، والشبكات قائمة، وما يلزم فقط هو إعادة ترتيب.
لكن التحدي لا ينتهي عند الحلول الفنية. المشكلة الأكبر في ذهنية الاستهلاك الموسمي غير المسؤول. مؤسسات خيرية توزع العلب بنوايا طيبة، فتزيد الطين بلّة، وبعض الحجاج - بدافع الجهل أو الاستسهال - يفتح العبوة، يشرب منها رشفة، ثم يرميها كاملة. هذه السلوكيات، وإن بدت فردية، تتحوّل إلى كوارث في ظل الزحام وضيق المكان وقصر الوقت، فتُرهق المنظومة البيئية في المشاعر حتى تبلغ حدودها القصوى.
والسبب أن الحاج يُجبر من قبل موزعين الجمعيات على أخذ عبوات المياه؛ فلو عُرضت في أماكن مخصصة على طول طرق الحجاج وترك للحاج حرية الأخذ وقت الحاجة، لخفّت المأساة، وهذا ضمن الحلول.
ليس المطلوب اليوم أن نُوقف السقيا، ولا أن نُقلّل من فعل الخير، بل أن نُحسن إدارته. أن تكون السقيا ذكية لا فوضوية، منظمة لا عشوائية، هادفة لا استعراضية. وأن نرتقي في وعي التعامل مع المياه، كما نرتقي روحًا في أداء الشعائر.
ما تقترحه الدراسات، وتبدأ بتنفيذه الجهات المختصة، ليس تنظيرًا، بل ضرورة لتخفيف العبء البيئي والمالي واللوجستي عن موسم هو الأكبر والأقدس في العالم. استبدال القوارير بالحافظات، وتعميم محطات المياه، ليس خيارًا إضافيًا، بل حاجة ملحّة تفرضها أرقام النفايات وتحديات النظافة.
نعلم جميعًا أن سقيا الحاج عبادة، لكنها تفقد معناها إن تحوّلت إلى عبء على غيره. والعبادة التي تُخلّف أطنانًا من النفايات وتُهدر المال العام وتضيع العمل الخيري، لا بد أن تُراجع. أما الحلول، فهي موجودة، وتنتظر فقط أن نتعامل معها بعقل لا بعاطفة، وبمنطق مسؤول.