د. سفران بن سفر المقاطي
في المشهد السياسي العالمي المتقلب، تبرز سياسة ملء الفراغ كإستراتيجية حيوية تشكل خريطة العلاقات الدولية وتعيد توزيع موازين القوى. وتعتمد هذه السياسة على مفهوم بسيط وعميق في آنٍ واحد: «الطبيعة تكره الفراغ»، وهو ما يعكس نفسه بوضوح في تصرفات الدول التي تتسابق لملء الفراغات السياسية الحاصلة.
وعند تحليل سياسات الدول، يظهر بجلاء كيف تستغل القوى الكبرى أي تراجع أو انسحاب لقوة منافسة، لتبسط نفوذها ومدى تأثيرها. هذه الإستراتيجية لا تقتصر على الدول الكبرى فحسب، بل تشمل أيضاً الدول الإقليمية التي تسعى لتعزيز مكانتها في محيطها الجغرافي. لهذا يمثل هذا التنافس المستمر والسعي لتحقيق التوازن بين مختلف القوى جزءاً أساسياً من فهم العلاقات الدولية الحديثة، ويتطلب من الدول متابعة المتغيرات والمبادرة نحو اقتناص الفرصة. فسياسة ملء الفراغ بمثابة لوحة شطرنج ديناميكية، حيث تتحرك قطعها بلا توقف في محاولة للسيطرة على النقاط الحيوية، مما يجعلها عنصراً جوهرياً في قراءة المشهد السياسي العالمي ورصد تحركات اللاعبين الكبار والصغار على حد سواء.
ومنذ أقدم العصور، كانت سياسة ملء الفراغ جزءاً لا يتجزأ من اللعبة السياسية الكبرى. عندما انهارت الإمبراطورية الفارسية الأخمينية في القرن الرابع قبل الميلاد، تسللت قوى جديدة مثل البطالمة والسلوقيين لملء الفراغ. وفي الأثناء التي كانت فيها الإمبراطورية الرومانية تتداعى، اندفعت القبائل الجرمانية والهونية لاستغلال ضعف روما والتوسّع في أراضيها.
ورأينا هذا النمط يتجدد مع بداية القرن التاسع عشر والعشرين عندما تنافست القوى الاستعمارية على السيطرة على المناطق التي تخلت عنها الإمبراطورية العثمانية، كما تجسد في اتفاقية سايكس- بيكو لعام 1916م التي أعادت رسم خريطة الشرق الأوسط بما يتوافق مع مصالح بريطانيا وفرنسا. لكن العصر الذهبي لسياسة ملء الفراغ كان بلا شك خلال الحرب الباردة (1947- 1991م)، حيث كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي يتسابقان لملء كل فراغ جيوسياسي في العالم، مشعلين صراعات بالوكالة من فيتنام إلى أنغولا. وجاء مبدأ ترومان (1947م) كدلالة واضحة على هذا التوجّه، معلناً التزام أمريكا بدعم الدول المهددة من قبل النفوذ الشيوعي، لمنع السوفييت من ملء أي فراغ سياسي وأمني.
وفي عالم العلاقات الدولية المعقد والمتشابك، تختلف المدارس الفكرية في تفسيرها لظاهرة ملء الفراغ، مما يعكس تعدد الأبعاد والخلفيات لهذه الظاهرة.
تنظر المدرسة الواقعية بقيادة مفكرين مثل هانس مورغنثاو إلى ملء الفراغ كضرورة حتمية تدفعها الفوضى وسعي الدول لتعظيم قوتها، حيث تمثل الفراغات السياسية تهديداً وفرصة معاً، لا يمكن تركها دون استغلال. في المقابل، تقدم المدرسة الليبرالية رؤية تفاؤلية، حيث تفسر سياسة ملء الفراغ من خلال التعاون الدولي والمؤسسات التي تهدف إلى تعزيز الاستقرار ومنع الفوضى، متجاوزة بذلك منطق الصراع الصفري.
أما المدرسة البنائية، فتضيف بعداً يتصل بالثقافة والهوية، مؤكدة أن الأفكار والهويات تساهم في كيفية إدراك الدول للفراغات السياسية واستجاباتها لها. وبذلك يرتبط ملء الفراغ بنظرية توازن القوى في العلاقات الدولية، فعندما يختل التوازن بفعل انحسار قوة ما، تتسابق قوى أخرى لملء الفراغ وخلق توازن جديد، مما يفسر السباق المحموم بين القوى الكبرى للسيطرة على مناطق النفوذ، مدفوعة بهاجس أن قوة منافسة قد تسبقها لملء الفراغ.
وفي عالم العلاقات الدولية المتشابك، تتخذ سياسة ملء الفراغ أشكالاً متعددة، كل منها يعكس أدوات القوة المتاحة للدول واستراتيجياتها المختلفة.
يعد النمط العسكري الأكثر وضوحًا وتأثيرًا، ويتجسد في نشر القوات أو إقامة القواعد العسكرية في المناطق التي شهدت انسحابًا من قوة أخرى، كما شهدنا في توسع حلف الناتو في أوروبا الشرقية بعد تفكك حلف وارسو، والتدخل الروسي في سوريا عام 2015م. أما النمط السياسي والدبلوماسي، فيعتمد على تعزيز العلاقات السياسية وإقامة التحالفات مع دول أو أطراف في المناطق التي تشهد فراغًا، كما تسعى الصين لتوطيد علاقاتها مع دول أفريقية كانت تقليديًا ضمن دائرة النفوذ الغربي، والجهود الروسية لتعزيز وجودها في دول أمريكا اللاتينية مثل فنزويلا وكوبا، مستغلة تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة.
ويبرز النمط الاقتصادي كأحد أهم أدوات القوى الصاعدة في القرن الحادي والعشرين، حيث يتم توظيف القروض والاستثمارات والمساعدات كوسيلة لتعزيز النفوذ السياسي. وتأتي مبادرة «الحزام والطريق» الصينية كمثال بارز على هذا النمط، حيث تستثمر الصين مئات المليارات في مشاريع البنية التحتية عبر قارات العالم، ساعية لملء الفراغ الاقتصادي في المناطق المهملة.
ولا يمكن إغفال النمط الثقافي والأيديولوجي الذي يستهدف العقول والقيم، من خلال نشر منظومات فكرية وثقافية في مناطق تشهد تحولات. ويتضح هذا في التنافس بين النموذج الديمقراطي الغربي والنماذج السلطوية البديلة في الدول التي تمر بمراحل انتقالية، حيث تسعى كل قوة لتقديم نموذجها كحل أمثل لتحديات هذه الدول. ومع التطور التكنولوجي الهائل، برز النمط التكنولوجي كبعد جديد لسياسة ملء الفراغ، ويتجلى في التنافس على تقديم البنى التحتية التكنولوجية كشبكات الجيل الخامس ومراكز البيانات والأقمار الصناعية للدول النامية، ويعكس التنافس الأمريكي-الصيني في هذا المجال بوضوح هذا البعد الجديد من أبعاد الصراع على النفوذ العالمي.
ومنذ أزمنة قديمة، تجسدت سياسة ملء الفراغ كجزء لا يتجزأ من لعبة النفوذ والسيطرة. بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تراجع القوى الاستعمارية الأوروبية، انطلقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في سباق محموم لملء الفراغ الجيوسياسي، بدءاً من مبادرة مارشال لإعادة إعمار أوروبا الغربية، وحتى السيطرة السوفييتية على دول أوروبا الشرقية.
وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م فتح الباب أمام الولايات المتحدة لتوسيع نفوذها، فمدّت حلف الناتو إلى دول كانت يوماً جزءاً من حلف وارسو، وزرعت بذور النموذج الغربي في أوروبا الشرقية، وتعززت هيمنتها في آسيا الوسطى بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م. ومع ظهور ما يسمى «الربيع العربي» عام 2010م، ازداد الفضاء السياسي اضطراباً، ما أتاح لقوى إقليمية ودولية فرصة جديدة لملء الفراغات الناجمة عن سقوط أنظمة الحكم. فكان تدخل روسيا في سوريا لدعم نظام الأسد مثالاً صارخاً على ملء الفراغ نتيجة التردد الأمريكي، بينما توسع النفوذ الإيراني ليشمل العراق وسوريا واليمن ولبنان عبر وكلاء محليين. في هذه الأثناء، حاولت تركيا تعزيز وجودها في شمال سوريا والعراق وليبيا، بينما أدت دول الخليج دوراً محورياً في تشكيل المشهد السياسي في المنطقة.
وفي القرن الحادي والعشرين، شهدت السياسة العالمية عودة روسيا كلاعب مركزي تحت قيادة فلاديمير بوتين، حيث تبنت استراتيجية نشطة لملء الفراغات في مناطق نفوذها التقليدية، من خلال تدخلات عسكرية مباشرة واستخدام موارد الطاقة كأداة للنفوذ. بالتوازي، اختارت الصين نهجاً مختلفاً، مركزه الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية، دون اللجوء إلى التدخل العسكري المباشر.
جاءت مبادرة «الحزام والطريق» لتبرز كأداة استراتيجية تستهدف عشرات الدول، مع استثمارات ضخمة تعزز النفوذ الصيني في أفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. وتتزايد الاستثمارات الصينية في البنية التحتية واستخراج المعادن، بينما تحاول الولايات المتحدة وأوروبا الحفاظ على نفوذهما من خلال برامج التنمية ومكافحة الإرهاب.
أما الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021م، فقد قدم مثالاً معاصراً على السباق لملء الفراغ الناتج عن انسحاب قوة مهيمنة.
ما إن غادرت القوات الأمريكية، حتى بدأت الصين وروسيا وإيران وباكستان بالتسارع للتواصل مع طالبان وتأمين مصالحها، في سباق على استغلال الموارد الطبيعية الأفغانية واحتواء التهديدات الأمنية.
وفي منطقة الساحل الأفريقي، يتجلى التنافس على ملء الفراغ بوضوح مع انسحاب القوات الفرنسية وتوسع النفوذ الروسي عبر مجموعة فاغنر.
وتتنوع استراتيجيات ملء الفراغ بين الأسلوبين المباشر وغير المباشر، مما يعكس تباين قدرات وتوجهات القوى الساعية لتعزيز نفوذها. في الاستراتيجيات المباشرة، نرى التدخل العسكري كأداة واضحة، أو الدعم السياسي والدبلوماسي للأنظمة الجديدة أو الأطراف المتنازعة، بالإضافة إلى تقديم المساعدات الاقتصادية والاستثمارات لخلق علاقات تبعية اقتصادية. أما في الجانب غير المباشر، فتستخدم القوى وكلاء محليين كالميليشيات والأحزاب السياسية لخدمة مصالحها، وتوظف الدبلوماسية العامة والقوة الناعمة من خلال وسائل الإعلام والثقافة، بالإضافة إلى استغلال المنظمات غير الحكومية كأدوات للتأثير. ومع تزايد أهمية الفضاء الإلكتروني، أصبح التأثير على الرأي العام ودعم قوى معينة جزءاً لا يتجزأ من هذه الاستراتيجيات.
وتواجه سياسة ملء الفراغ معضلات شائكة تجعلها أشبه برحلة عبر حقل ألغام. يأتي الخطر الأمني على رأس هذه التحديات، إذ يشعل التنافس بين القوى صراعات لا تنطفئ. القوة الطامحة في ملء الفراغ قد تقع في فخ النزاعات المستعصية، كما حدث للولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. فالاقتصاد يشكل عائقاً آخر، حيث تحتاج سياسة ملء الفراغ إلى ضخ أموال طائلة وموارد قد لا تثمر سريعاً، مما يثقل كاهل الاقتصاد الوطني خاصة في ظل التحديات الداخلية.
سياسياً، تواجه القوى مقاومة شرسة محلياً ودولياً، وقد يصطدم الرأي العام الداخلي بالتدخلات الخارجية المكلفة. كما أن شرعية هذه السياسات تُطرح على الساحة كإشكالية أخلاقية وقانونية، إذ قد تُتهم القوى بالتدخل في سيادة الدول، مما يثير التهم بالإمبريالية والهيمنة. هذه التحديات المتشابكة تجعل من سياسة ملء الفراغ مقامرة محفوفة بالمخاطر، بالرغم من إغراءاتها الجيوسياسية.
وفي ظل التحولات التدريجية نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب، تتزايد الفراغات الجيوسياسية وتتنوع، مما يزيد من حدة المنافسة والتوتر في مختلف مناطق العالم. ومع التطور التكنولوجي، تتغير طبيعة الفراغات المستهدفة، فلم تعد مقتصرة على الجغرافيا التقليدية، بل امتدت إلى الفضاء السيبراني والفضاء الخارجي، فضلاً عن مجالات تكنولوجية متقدمة كالذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية. ومع تزايد دور الفاعلين غير الحكوميين من شركات متعددة الجنسيات ومنظمات دولية وجماعات مسلحة، يصبح المشهد الجيوسياسي أكثر تعقيداً وصعوبة في التنبؤ بديناميكياته. ومع ذلك، قد تدفع التحديات العالمية المشتركة كتغير المناخ والأوبئة والإرهاب العابرة للحدود نحو أشكال تعاونية جديدة لملء الفراغات، إدراكاً أن مواجهة هذه التحديات تتطلب جهوداً مشتركة لا صراعات محمومة.
وتتجلى سياسة ملء الفراغ في العلاقات الدولية كأداة حيوية تسعى من خلالها الدول إلى تأكيد نفوذها في مناطق تفتقر إلى الاستقرار أو يعاني فيها النفوذ التقليدي من التراجع.
إن النمط العسكري، والذي يُعد الأكثر وضوحًا، يظهر في نشر القوات وإقامة القواعد العسكرية كما في توسع الناتو في أوروبا الشرقية وتدخل روسيا في سوريا. بينما يتفوق النمط السياسي والدبلوماسي في بناء التحالفات وتعزيز العلاقات، مثلما تفعل الصين في أفريقيا، وروسيا في أمريكا اللاتينية. أما من الناحية الاقتصادية، فالنمط الاقتصادي يتصدر المشهد في القرن الحادي والعشرين، حيث تُوظف الاستثمارات والقروض والمساعدات لتعزيز النفوذ، كما في مبادرة «الحزام والطريق» الصينية التي تستهدف ملء الفراغات الاقتصادية في المناطق النامية. ولا يغيب النمط الثقافي عن المشهد، حيث يتم استهداف العقول والقيم من خلال نشر الأيديولوجيات المختلفة، في محاولة لتقديم النماذج الفكرية كحلول لتحديات الدول الناشئة. وفي العصر التكنولوجي الحديث، ويبرز النمط التكنولوجي كأداة جديدة لملء الفراغ، حيث يتم التنافس على تقديم البنى التحتية التكنولوجية مثل شبكات الجيل الخامس ومراكز البيانات.
ويظهر هذا جلياً في التنافس الأمريكي-الصيني في هذا المجال، والذي يعكس البعد الجديد من أبعاد الصراع على الهيمنة العالمية. ومع استمرار التراجع في نفوذ بعض القوى الإقليمية والدولية حاليا وظهور الفراغات السياسية والإيديولوجية في بعض مناطق العالم، يبقى السؤال المركزي حول من سيرث هذه الفراغات وكيف سيتم ملؤها. إن هذا السباق الملتهب لملء الفراغات يحمل في طياته فرصاً وتحديات كبيرة، حيث يتطلب توازنًا دقيقًا بين التحالفات التقليدية والاستراتيجيات المبتكرة لتحقيق الاستقرار والنفوذ في عالم متعدد الأقطاب.