أ.د. محمد خير محمود البقاعي
سأتناول في هذه المقالة القسم الأخير من تقرير جبريل جيمار الذي يؤكّد المقولة المؤكدة للوجود الفرنسي والغربي الفاعل في الحملة على الدولة السعودية الأولى، وبذكر المزيد من المصادر والشخصيات الدبلوماسية والعسكرية التي رسخت الوجود الفرنسي خصوصاً، والغربي عموماً، في الحملة المذكورة.
يقول جيمار في آخر تقريره: «إن مهمة تنظيم جيش مصري نظامي؛ وهي المهمة التي كلّف بها محمد علي في مرحلة لاحقة فرنسيا آخر هو المدعو «جوزيف أنثيليم» سيف »Joseph Anthelme» Sève ربما كانت ستبوء بفشل ذريع لولا العمل التمهيدي الذي قام به فيسيير بموافقة صاحب الأطوار العجيبة محمد علي».
لقد كان الدور الغربي متمثلاً في وجود العسكر، والأطباء، والصيادلة، حاسماً في كسب الجولة التي سبقتها جولات فشلت في مبتغاها.
لم يمكث إبراهيم باشا وقواته مدة طويلة في الدرعية بعد الخراب الذي لحق بها، ولم تنطفئ جذوة الارتباط بين الشعب وأئمته وأمرائه على الرغم من التهجير والتضييق بولاة كان كل همهم جني ما يستطيعون قبل أن يتركوا مناصبهم لقادمين جدد. وبقي الأمر في مد وجزر حتى كان إعلان الدولة السعودية الثانية (1240- 1309هـ/1824-1891م)، بمبادرة شجاعة ميمونة من الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود (1183-1250هـ/1769-1834م) الذي جعل الرياض عاصمة الدولة الثانية.
يتابع جيمار قائلاً: أما مالزاك Malzac فإن لوجان أكسبه [170] سمعة سيئة: فبعد:
اثني عشر عاماً، وعلى إثر أرنو (والمقصود هنا أرنو بيه) أي بعد عام 1854م: كتب لوجان قائلاً:
«هذا الفرنسي، مالزاك، ملحق سابق في السفارة، كان مقره في غابة شامبيل R’aba-Chambil.
وأسس من قبائل الرول les Rôls جيشاً متوحشاً. كان سكان الخرطوم يسمون أفراده: رجال الساعات والأحزمة الحريرية.
هذا الرجل الذي كان السود المساكين، الذين يعشقون القوة، لا يسمونه إلا الأبيض الكبير «أوني-ديد» (onai-did)، مات بعد حملات التشهير المشينة التي شنها، في الخرطوم قبل عدة أيام من وصولي إليها».
يعترف لوجان بخصوص مالزاك أن هذا الأخير كان لديه أوامر من جهات عليا، أوامر ذات طبيعة تتوافق مع طموحاته العلمية. لقد كان يحزم أمتعته لاكتشاف منابع النيل. (الحاشية 1، ص 170: ندين بالمعلومات لمالزاك Malzac في كتابه: مجرى النهر الأبيض، نشرة الجمعية الجغرافية، يونيو، 1862م=
On doit a Malzac, Debit du fleuve Blanc… Bull. Soc. Geo. Juin. 1862).
وصل لوجان بعد ذلك إلى «بحر» الغزال، ورافده الجنوبي نهر الجور Djour، وهو ينوي مقابلة فايسيير في مقره البري، الواقع في أراضي ريك Rek (جنوب السودان)، ولكن فايسيير كان قد غادرها منذ وقت قصير إلى بلاد اللاو Lao. وانتظره لوجان بلا طائل لمدة تسعة عشر يوماً.
ولما انتهت مهمته في هذا الموقع (الوصول إلى أقاصي بحر الغزال) أصدر أوامره بالرجوع. وبعد ثماني سنوات عندما كان المستكشف وعالم النبات الألماني جورج أوغست شوينفورث (1836- 1925م)
Georg August Schweinfurth الذي مات مؤخراً في سن متقدمة، يجوب هو أيضاً بلد الأنهار، وإليكم ما يقوله عن فايسيير في كتابه: في قلب إفريقيا؟
«عندما غادرت زريبة غطاس، Ghattas (مايو 1869م) سرنا مسافة 15 كم باتجاه شمال- غرب حتى وصلنا إلى زريبة عبدالرحمن أبو قرون d›Abdérahman Abou-Gouroun وقد جاء إلى المنطقة ذاتها الماركيز الإيطالي أورازيو أنتينوري (1811- 1882م) Le marquis Orazio Antinori في عام 1860م.
(وهو مستكشف وعالم نبات، توفي في منطقة «خوا» في الحبشة).
لقد أمضى هناك [171] فصل الأمطار كله، على الرغم من مظاهر الحرمان التي تفرضها عليه الإقامة في هذه المنطقة.
لقد كان ألكسندر فايسيير، وهو صياد فرنسي، قد أسس في ذلك المكان مقراً صغيراً يحميه الأول
El Oual, زعيم منطقة الجور Diours أو Djours (وهو الصواب) وهي ولاية تقع غرب بحر الغزال بجمهورية جنوب السودان اليوم).
(والأول ينتمي إلى مجموعة عرقية (لوو أو ليو) تتوزع في عدة مناطق ودول إفريقية. تنحدر أصولها من مدينة واو في جنوب السودان، ويتركز سكانها في مشارف بحيرة فيكتوريا، ويمثلون نسبة كبيرة من قبائل جنوب السودان).
إن السيد فايسيير، صاحب القلم الأنيق الذي كتب هو نفسه مقالة عن إفريقيا الوسطى نشرها في مجلة العالمَيْين، مات في السنة نفسها على ضفة نهر الغزال ضحية حمى فقر الدم الخبيث.
إذن، لقد ثبت لدينا موت جان ألكسندر فايسيير؛ الذي قضى نحبه عام 1860م، وهو لم يكد يناهز الثالثة والأربعين، ضحية حبه لإفريقيا الاستوائية، ذات الطبيعة الرائعة المغرية كل الإغراء، ولكنها للأسف قاتلة لأبناء جلدتنا.
إن الجهات الأجنبية تكيل المديح للمستكشفين من أبناء جلدتها، وتدعمهم، وتستفيض كتبنا المدرسية في ذكرهم.
لقد سعدت بإعادة بناء سيرة فرنسي شجاع، مظلوم بالنسيان، كان أول من توغل وعاش بلا أموال ولا حماية في أكثر المناطق وحشة في القارة السوداء.
وأعود في الختام إلى رجل الإمبراطورية المحنك، إلى خصم الوهابيين، إلى تاجر الصمغ والبن، وأعني باختصار «جان باتيست» فيسيير التاريخي: إنه يستحق هذا الوصف.
إنه ليسعدني الاعتراف أنني لم أكن يوماً سعيداً بقدر ما أنا عليه اليوم، مع هذا الرجل المقتصد في كلامه، ومع سميه، الصياد المتقد حماسة في أعالي النيل، الذي كان مغرماً بالكتابة. إنني لم أستطع إعادة بناء أحداث حياة فيسيير الخاصة [172] عندما وصل إلى مصر، ولا التعرف إلى ظروف موته. أما المطابقة بينه وبين شخصية الملازم جان باتيست الذي كان يعيش في إسباليون، يتقاضى نصف راتب لأنه كان ممن يسمونهم “brigand de la “Loire «قطاع الطرق من منطقة اللوار»، فإنها لم تبلغ حد الحدث الأكيد. وقطاع الطرق… تسمية أطلقت على من ناصروا نابليون خلال الـ 100 يوم التي عاد فيها إلى الحكم وسرحتهم السلطات الجديدة بعد سقوطه، وخصصت لهم نصف راتب).
لقد أجريت بحثا إضافيا في مكتب الخدمات التاريخية، ولكنه لم يفضِ إلى نتيجة. (رسالة من الكولونيل كليمان غرانكور(1877- 1948م) Colonel Clément-Grandcourt.
مؤرخة في 20 نوفمبر، 1928م). هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لسنا نملك دليلاً للجيش بين عامي 1805- 1815م.
ولكن، أي مصير ذاك الذي نزل بهذا الضابط؟ لقد اصطف إلى جانب أعظم رجل في التاريخ المعاصر. (يقصد نابليون). لقد اضطرّ إلى الهجرة وخوض حرب في بلاد العرب صحبة باشي بوزق (اسم للعسكري المرتزق في الجيش العثماني) لكي يحصل على نصيبه المتواضع من التكريم. إنه لمن عجائب الأقدار أن مكان موته وتاريخه شأنهما شأن تواريخ ولادته، وشبيبته، واسمه الأول، وطريقة كتابة اسم نسبته، كل ذلك يظل جملة من الأمور المشكلة التي ينبغي حلها. جملة أمور أفخر بأنني أراها مشروعا مستقبليا. ألاحظ، مرة أخرى أيضاً، عبر المثال الذي تقدمه شخصية «الكوماندان فيسيير»، الذي حصل على هذه الرتبة إبان خدمته في جيش محمد علي، ألاحظ، ما يدين به وادي النيل لمواطنيَّ؛ فلولا مساعدة هذا العسكري الغامض الذي يتقاضى نصف راتب من بلده، لكان مصير إبراهيم باشا الفشل في قلب بلاد العرب.
إن مهمة تنظيم جيش مصري نظامي؛ وهي المهمة التي كلف بها محمد علي فرنسيا آخر هو المدعو «جوزيف أنثيليم» سيف »Joseph Anthelme» Sève ربما كانت ستبوء بفشل ذريع لولا العمل التمهيدي الذي قام به فيسيير بموافقة صاحب الأطوار العجيبة محمد علي. ولنا لقاء