د.عبدالإله موسى آل سوداء
من الأمور التي باتت مستقرةً في سلوك معظم مدوني السيرة الذاتية الأدبية إنْ لم يكن جميعهم، التوجُّسُ من تَعرية الذات أمام الآخر، والحذر من كشف سقطات النفس للمتلقي، وهو سلوكٌ له ما يُسوّغه في ثقافتنا العربية والإسلامية؛ فالخوف من مَعرّة ذلك، ومن التبعات النظامية، ومن خصوم كاتب السيرة، كلها موانع تجعل هذا السلوكَ مستقرًا لا يتزحزح. فضلاً عن القيود الدينية كالأحاديث النبوية الشريفة التي تحض على ستر النفس، وعدم المجاهرة بمساوئ الأخلاق، أو إخبار الآخرين بفعلها، وتُستَحضَرُ في هذا السياق أحاديث شريفة مثل: «اجْتَنِبوا هذه القاذوراتِ التي نَهى الله عنها، فمَن أَلَمَّ فلْيَستَتِرْ بسِترِ اللهِ، ولْيَتُبْ إلى اللهِ»، وكذلك: «إذا بُليتم فاستتروا» وغير ذلك من الأحاديث النبوية.
وأنا هنا لا أريد الحديثَ عن الاعترافات السِّيْرِيَّة المتعلقة بالموبقات والكبائر، ولا الاعترافات المتضمنة حديثًا عن ضَعف النفس أمام موقفٍ عاطفي أو أزمة، إذْ تَكَلّمُ كثيرون عن مثل هذه الاعترافات في السير الذاتية الأدبية العربية، وإنما مرادي، هي تلك الاعترافات التي تتضمن سلوكاً اجتماعيّاً قد يُعدُّ نقيصةً تَشينُ كاتبَ السيرة، وتَغُضُّ مِن قدره لدى بعض القراء ممن لم يتعودوا هذا النوع من الصراحة في أدب السيرة الذاتية، كحديث الكاتب السيري عن علاقته المتوترة مع أحد أفراد عائلته الصغيرة أو الممتدة، أو حديثه السلبي عن والده أو والدته، أو حديثه عن وجود صفةٍ قبيحة فيه كالبخل أو الوسواس القهري أو غير ذلك من الصفات التي يَكرهها الناسُ أو لا يكرهونها ولكنهم يتحاشون أصحابَها، أو حديثه عن غياب عاطفة الحب للأبناء أو للأبوين أو لأحدهما، أو سلوك التدخين ممن لا يُتوقَّعُ منه ذلك، وإلى ما هنالك من السلوكات أو الصفات الخُلُقية.
وأذكُرُ في هذا الشأن أنني ذاتَ مرة كنتُ أستمع لبرنامج «من الألف إلى الياء»، وكان الضيفُ الشيخَ محمد متولي الشعرواي، وقد سأله المحاوِر: «مولانا ما دخنتش أبدا؟» فأجاب بنعم، وأنه ظل نصف قرنٍ مدخّناً! وقد أصابتني دهشة حين استمعتُ أول مرةٍ لهذا الجواب؛ إذْ كيف لعالم دين معروف أنْ يقع في هذا السلوك؛ فضلاً عن أنْ يعترف به نادمًا، وأين ما كنا نتلقاه في طفولتنا وشبابنا الغض من الفتاوى المحرمة للتدخين، إضافةً إلى التوعية الصحية بخطورته؟! حتى علمتُ لاحقًا أنّ أمر التدخين لم يكن في بدايات القرن الماضي محسومًا من الناحية الدينية والطبية؛ فتبددت صدمتي، وزالت الدهشة، وأدركتُ حينها أننا يجب أن ننظر إلى أفعال الآخرين وأقوالهم بناءً على طبيعة عصرهم، وذَوْقِ مرحلتهم الزمنية.
وما دفعني لكتابة هذه المقالة هو قطعةٌ من سيرة الأديب المصري إبراهيم المازني (توفي 1949م) قرأتُها، فَشَدَّني ما فيها من جُرْأةِ الاعتراف، وعدم الاكتراث بردود أفعال القراء، ذلك أنه يقول: «وكان لي أخٌ أسن منّي، وكنتُ أوقر سنه، ولكني لم أكن أشعر له باحترام أو حب، كالذي يكون بين الأخوين عادةً، ولم أبكه لما مات، وإنما سخطتُ على ضعفه الذي قتله، فقد كانت امرأته تركبه كالحمار» ثم يواصل المازني سرده عن أخيه، وكيف كان أخوه ضعيفًا في شخصيته أمام زوجته، على رغم ظرفه وخفة ظله، ثم يُضيف: «وانقطع ما بيني وبينه سنوات لم أشتق إليه فيها قط، ثم التقينا اتفاقًا فتصافحنا في صمت ثم نزعتُ يدي، ومضيت لشأني ومضى في سبيله، وقد قصصتُ هذا لأصف شعوري الحقيقي؛ فهل هذه بلادة؟ أو هي نقص في بعض جوانب النفس؟ أم لأن حبي لأمي استنفد ذخيرة النفس من هذا الحب..؟ لا أدري، وأكبر الظن أنّ بي نقصًا».
إن هذا المقطع يَـشِفُّ عن جرأة في كشف خبايا النفس التي قد يكون في كشفها إضرارٌ بالسُمعة أو المصالح، وفيه كَشْفٌ وإنْ شئت فقل: فَضْحٌ لنَقيصةٍ ومثلبةٍ في شقيقه، ومع هذا يُلحظُ أن المازني لا يبالي في سبيل التعبير الصادق عن نفسه بكل ما يمكن أن يقال عنه حين تحدث عن عاطفته تجاه شقيقه، وعن ضعف شخصية شقيقه، وهي جرأة قَلَّ نظيرها فيما كَتبَه أصحابُ السير عن أنفسهم وعن المقربين من حولهم، إذْ يَعزُّ على أحدٍ أنْ يجد نماذج شبيهةً من السير الذاتية يعترف فيها أصحابها ببغضهم لأحد أشقائهم، والإفاضة في الحديث سبب هذا البُغض. وليس حديثي هنا عن إمكانية وقوع هذا النوع من البغض؛ فإنه كثير في دُنيا الناس، وإنما التعبير عنه مكتوبًا في السرد السيري الذي أُعد للطباعة والنشر! وقد يُقال إنّ عصر المازني يختلف عن عصرنا هذا، ذلك أن الأدباء يجدون فسحةً أكثر في الحديث عن تجاربهم الشخصية أيًّا كان نوعها، إذْ ليس كل الناس آنذاك يقرؤون السير الذاتية أو المقالات الأدبية المنشورة في الصحف، ولا يوجد أيضًا وسائل تواصل اجتماعي يملكها الأفراد، بحيث يُمكن لأحدهم التشغيب على الكاتب فيما كَتب، وإنما كان الإعلامُ مؤسسيّاً صَحَفيًّا؛ فضلاً عن أن المتلقي في عصر المازني يَختلف أسلوبه إلى حدٍ ما في التلقي لما يُنشرُ من الأدب عن أسلوب المتلقي في عصرنا الحاضر.
وما أحرى المازني لو كان في عصرنا الحاضر أنْ يَحْذَرَ حَذَرَ (القطاة)، ويَتَحَرّزَ تَحَرُّزَ (ظبي الإمبالا) حين يُزمِعُ على إنشاء سيرة ذاتية أدبية؛ فأعناقُ الرقباء مشرئبة، وعيونُ الناقدين مُفَتَّحَة، وسكاكين الجزارين مشحوذة؛ فلا مناص من أنْ يَعمَلَ بمقولةٍ لا أذكر صاحبَها، يَقول فيها: «كِتابةُ قصة الحياة، هي قصةٌ أخرى» أو «كتابة السيرة الذاتية، هي سيرةٌ أخرى».