د.نادية هناوي
تتنوع أشكال الفاعلية السردية، فتتخذ صيغًا مختلفةً ما استمر التجريب وما دام الابتكار، غير أن ذاك التنوع وهذا الاختلاف لا يؤثران في قوالب السرد التي هي أجناس معروفة الحدود ومعلومة الأبعاد ومحددة العناصر بضوابط، هي في أطرها حديِّة وفي محتوياتها مرنة وانسيابية.
ولولا ذلك لما أمكن ضبط الفعل السردي، ولا صارت له تقاليد خاصة، تجعل من هذا الفعل علمًا وفنًا في آن واحد، وهذا ما ينطبق أيضًا على الشعر الذي له قواعد وضوابط محددة، وأي تجريب في قول الشعر وكتابته إنما يأتي من ناحية تطوير التقاليد كأنماط وأشكال وأنواع تنضوي جميعها داخل جنس من أجناس الشعر.
ومن ثم يكون الشعر -مثله مثل السرد- علمًا وفنًا وليس جنسًا، وكل فن أو علم هو قابل للتقسيم والتفريع على مستوى التنظير التجريدي والممارسة العملية في حين أن الجنس قالب، ومن ثم لا يصح معه -كما في أي قالب مادي- التفريع والتثنية كي نفترض أن منه ما هو جنس ثانوي أو فرعي أو مزجي أو مختلط أو متداخل أو جامع.
وجوهر قضية التجنيس الأدبي أنها قوالب، ولا يمكن الحديث عن أي قالب إلا في جوهر ما يعنيه الثبات من الخارج والقدرة على الضم والاحتواء من الداخل، وهذا ما يجعل لقضية التجنيس أهميةً من جانب وتعقيدًا من جانب آخر. وبسبب ذلك حاول بعض المنظرين إلغاء التجنيس بالكامل أو القول بنفي النقاء والحدية عن الأجناس الأدبية.
ولا يغير ذلك من القضية في شيء؛ فالتجنيس أمر قار في الأدب كما أنّ التنظير لفاعليته أمر شغل الفلاسفة منذ القدم، فوضعوا نظريات خاصة في سبيل تفسير الفاعلية الأدبية التي هي على الدوام تسبق فعل التنظير زمانيًا ولا تكون موضع الاهتمام النقدي إلا بعد أن تكون قد فرضت لنفسها قواعد معينة واتسع نطاق إتباع تلك القواعد.
وما كان لأرسطو أن يضع كتابه ( فن الشعر) ويطرح نظريته في المحاكاة، لولا بلوغ الشعر المسرحي والغنائي والتمثيل الدرامي مرحلة متقدمة من الإبداع، هو جزء أساس من ازدهار العصر الذي فيه عاش أرسطو وقبله أفلاطون، وهذا يعني أن الأدب يملك هارمونيته التي تجعله في حالة تجدد مستمر، وفي الآن نفسه تجعله يؤكد امتداده التاريخي بما يرسِّخه من تقاليد فنية، تكون بما لها من بعد زماني ومكاني فارضة نفسها على النقاد، وأقدم الشعوب أدبًا هي الأسبق في ابتداع الأجناس الأدبية.
وما من أمة لها إرث أدبي عريق إلا ولها في الشعر أو السرد تقاليد فنية، أثَّرت بها في غيرها من الأمم، سواء التقارب الجغرافي أو بالعلاقات التجارية والصلات الثقافية.
ولا يعني ثبوت الجنس واستقرار قالبه أن ما يُبتكر في حاضنته من أشكال أو أنواع هي أقل أهمية من الجنس أو أنها ثانوية، وإنما هي تملك قيمة جمالية مضاعفة، حتى إذا ما تواترت ظروف أدبية معينة أمكن الإفادة من تلك القيمة في أن يديم النوع السردي وجوده، وقد يتمكن بثبوت النهج في كتابته أن يتحول إلى جنس قائم بذاته؛ أي له قالبه الذي لا يتشابه أو يتقارب مع أي قالب آخر من القوالب الاجناسية المعهودة.
وعادة ما تكون احتمالية بزوغ أشكال أدبية جديدة سببًا في أن يتطور النوع الأدبي، وقد يصبح جنسًا وحده، ولقد كان شيوع الأجناس الثلاثة الكبرى (القصيدة المسرحية، القصيدة الغنائية، التمثيل الدرامي) في الحضارتين الإغريقية والرومانية ناتجًا عما شهده الأدب من أشكال مختلفة كانت نتيجة طبيعية للازدهار الحياتي والثقافي العام. وكان التطور الأدبي في ظل الحضارة العربية الإسلامية مقرونًا أيضا بما وصلت إليه من ازدهار على مختلف مستويات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية.
ولقد ابتدع الأدباء العرب المسلمون أنواعًا شعرية جديدة كالبند والدوبيت، وتطورت بعض الأشكال السردية كالحكاية والخطبة والسيرة والخبر والتطفيل والأمثال والتوقيع فصارت أنواعًا مثل المقامة والمنامة والنادرة والقصة.
وبرسوخ تقاليد السرد العربي، نضجت عناصر القصة وصارت جنسًا تبلورت حدود قالبه على يد الأدباء والفلاسفة بدءًا من الجاحظ والتوحيدي ومرورًا بابي العلاء المعري والحريري والوهراني ووصولًا إلى ابن سينا وابن طفيل وابن شهيد وغيرهم، وحين تراجعت قوة الدولة العربية الإسلامية وتضعضعت سياسيا فانتقل ميزان الهيمنة إلى أمم أخرى، لم يؤثر ذلك في المداومة على تقاليد الأدب وأجناسه، فلا هي تلاشت أو انتهت، بل هي انتقلت وأثَّرت واستمرت، ولا خلاف في أن اللاحق سيكمل ما جاء به السابق تماما كما أكملت الحضارة الرومانية ما بدأته الحضارة الإغريقية، وكذلك أكملت الحضارة العربية الإسلامية بناء ما وصل إليها من الأمم السابقة في بلاد الرافدين والشام ومصر وفارس والهند والأناضول.
وبنهاية العصور الوسطى كان أدباء أوروبا يتبعون - في كتابة القصة - ما وصل إليهم من تقاليد الأدب الشرقي وبخاصة تقاليد السرد العربي القديم، ثم كان لعصر النهضة ثم الازدهار العسكري والاقتصادي والعلمي في القرنين السابع عشر والثامن عشر أن ساهم في حمل الأديب الأوروبي على تطوير تقاليد كتابة القصة؛ فقلل من العجيب والخارق للمألوف، واتخذ من حوادث الحياة اليومية موضوعا قصصيا فتخلصت القصة من قاعدتها التي قامت عليها وهي اللاواقعية وصار التجريب مركزا بشكل خاص على الواقعية.
وتأثرًا بالتقدم العلمي والفكري في القرن الثامن عشر غدت العقلانية والموضوعية سمات مهمة في بناء القصة، فزاد طولها من جراء الاهتمام بتصوير تفاصيل الواقع المعيش والتركيز على الفرد واستبطان مشاعره النفسية.
وتوضح هذا الاتجاه أول مرة على يد الكاتبات الأوروبيات اللائي وضعن قواعد كتابة سردية تهتم بالواقع من جهة وبالبعد النفسي للشخصية من جانب آخر. وسميت كتبهن بالرواية كجنس منفرد عن جنس القصة.
بيد أن هذا التطوير في ابتداع الجنس الروائي لم يحل دون تطوير كتابة القصة عبر استجلاء الحالات النفسية من وعي ولا شعور ويقظة ونوم، وساهم هذا التطوير في أن يبزغ في القرن التاسع عشر جنس سردي جديد هو القصة القصيرة، وكان تشيخوف وموباسان وهوثورن وكيث جوين وادجار الن بو وغيرهم هم روادها. ولقد قيل في أسباب ظهور هذين الجنسين الكثير لكن لم يقل أنهما كانا حصيلة أمرين الأول هو قالب القصة العربية الناضج أجناسيًا والآخر هو التطوير في تقاليد السرد القديم التي كان قد رسخها تاريخ طويل من الكتابة، وإلا هل ينكر الأديب الأوروبي أنه تأثر بعشرات القصص العربية فجرَّب ثم طوَّر في التقاليد، فكتب أشكالا وأنواعا جديدة؟!.