عبدالله العولقي
يُعدُّ عام 1929م علامة فارقة في سيرة أبي القاسم الشابي(1909م-1934م)، ففي هذا العام ألقى الشاعرُ الموهوبُ وهو في العشرين من عمره محاضرةً شهيرةً بعنوانِ (الخيالُ الشعريُّ عندَ العرب)، كان الحضورُ يُصفّقون بعدَ كُلِّ جُملةٍ منمقةٍ يُلقيها الشاعر انبهاراً بهذه الموهبة المتفجرة، كانِ الشابيُّ يُلقي محاضرته وهو منفعلٌ مع عباراته ومتفاعلٌ مع أفكارِه مُتجاهلاً ألماً يزدادُ وجعُه في صدره، لقد كان هذا العام كئيباً حسيراً على شاعرنا الموهوب، فما هي إلا أشهرٌ معدودةٌ من هذه الندوة المدويّة إلا ويمرض والدُه ويحسُّ بدنو أجله المحتوم، فيهرعُ الفتى الشابُّ إلى والده المستلقي على فراش الموت وهو يوصيه وصاياه الأخيرة، أوصاهُ بالاهتمام بوالدته وأشقائه من بعده، لكنَّ الوصيةَ الأهم التي ظلّ يرددها حتى لفظ أنفاسه الأخيرة فقد كانت الزواج!!.
لقدْ كانت وفاة والده أولى مصائب هذه السنة 1929م الحزينة على حياة وسيرة الشاعر، فقد كان الشابيُّ متعلقاً بوالده كثيراً ويحبه حباً جماً:
ياموتُ ماذا تبتغي مني
وقدْ مزّقتَ صدْري
ورزأْتني في عُمْدتي
ومشورتي في كلِّ أمري
ففقدْتُ رُكْني في الحياة
ورايتي، وعمادَ قصْري
وبعد رحيل والده بدأ الشاعرُ المرهفُ يحسُّ كثيراً بأوجاع قلبه، والآمه التي تتفاقمُ في صدره يوماً وراء يوم، كانت هذه الوخزاتُ الأليمة تُرْهقُ وجْدانَ الشابي وتأخذُ تفكيرَه طوال يومه، صحيحٌ أنّها ليستْ جديدةً عليه لأنها قد رافقته منذ طفولته المبكرة لكنها لمْ تكنْ بهذه الصعوبة!، فهي اليوم تزدادُ خفقاناً واضطراباً بين جوانحه وبصورةٍ لا تُحتمل، وهناك ذهبَ الشاعرُ إلى صديقِه المؤرخ والناقد زين العابدين السنوسي يستشيره في أمره، فكان ردُّ السنوسيِّ صارماً: عليك يا صديقي أنْ تذهبَ فوراً إلى الطبيب، يكفي العناد والمكابرة، فحالتك الصحيّة تزدادُ سوءاً يومأً بعد يوم، ووزنك يزدادُ نحافةً إلى درجةٍ مخيفةٍ!!، وبالفعلِ اصطحبَ السنوسيُّ صديقَه الشاعرَ إلى طبيبِ القلبِ الدكتور محمود الماطري، وبعدَ أنْ كشفَ على حالتِه الصحيّةِ صارحَه بخطورةِ وضعِه الصحي، وأنه مصابٌ بداءِ القلب، وأوصاهُ أنْ يتجنّبَ الإنفعالَ والعصبيّة لأنها تُؤْذي قلبه، وأنْ يتخلّى عنْ أيِّ مجهودٍ بدنيٍّ أو ذهني، والأهمُّ من ذلك كله أنْ يبتعدَ عن عالم الشعر والأدب ويتفرّغ لصحّته!!
ولكنْ هيهاتَ أنْ يستجيبَ الشاعرُ المتمرّدُ لهذه النصائح، وهنا بادر الشابيُّ طبيبه وأخبره أنه ينوي الزواج قريباً بناءً على وصيّة والده، فنصحه الطبيب بعدم الإقدام على هذه الخطوة لأن حالته الصحية لا تسمحُ له بذلك على الإطلاق!!.
عادَ الشابيُّ كئيباً من عيادة الطبيب، فقدْ تأكد له حقيقة مرضه في القلب، هذه الحالة التي كانت المصيبةُ الثانيةُ التي ألمّتْ على وجدانِه ونفسِه بعد وفاةِ والدِه في هذا العام، وأخذ الشاعرُ يتساءلُ مع نفسه كثيراً عنْ مستقبله وحياته، وبدأت الأسئلةُ الصعبةُ تعصفُ بوجدانِه وفكره، لقد عادَ الشاعرُ المرهفُ إلى منزله مهموماً حزيناً، فما عساهُ أنْ يفعل؟، فهو أمام مفترقِ طرقٍ صعبةٍ، إمّا أنْ يتزوجَ تنفيذاً لوصيّةِ والدِه وإمّا أنْ يستمعَ لنصيحةِ الطبيب!، وبعدَ تفكيرٍ عميقٍ مرهقٍ، قرّر الشابيُّ الزواج، فهو يُحبُّ والدُه كثيراً ولا ينوي مخالفةَ وصيّته حتى وإنْ كانَ الثمنُ حياتَه وصحّته!!، فبدأ الشابي يسْتجمعُ قواه لهذا التحدي الخطير، ويحاولُ أنْ ينجحَ في هذه المهمّة الصعبة:
أمشي بروحٍ حالمٍ متوهّجٍ
في ظُلمة الآلامِ والأدواءِ
النور في قلبي وبين جوانحي
فعلامَ أخشى السير في الظلماء!؟ِ
لقدْ حاولَ الشاعرُ قبل وفاة والده أنْ يرتبطَ بفتاةٍ تعلّق قلبُه بها لكنّ الموت اختطفها مبكّراً كما يذكرُ برسائله، وقدْ ترك رحيلها في نفسه أسىً عميقاً، وبعد وفاة والده تزوّج إحدى قريباته نزولاً لرغبة والده ولكنْ لم يُكتب لهذا الزواج النجاح!!.
والشقيُّ الشقيُّ من كان مثلي
في حساسيّتي ورقةِ نفسي
نعودُ إلى ما تحدّثنا عنه في بدايةِ المقالِ حول محاضرته (الخيالُ الشعريُّ عند العرب)، لقدْ فتحتْ هذه الندوة الأدبية للشاعر الحسّاس عداواتٍ وخصوماتٍ في البيئة الثقافية التونسية، فشخصيته الحادة لمْ تكنْ لتحتملَ النقد، فبدأت معاركه الأدبية مع خصومه، فاتهموه في عقله ودينه وعروبته!!، فكان لهذه الاتهامات العنيفة على روح هذا الشاب المُرْهف العليل أثرها السلبي على حالته النفسية والصحية، فكانت هذه التهم ثالثَ مآسيهِ ومصائبهِ في ذلك العام 1929م.
الشاعرُ الموهوبُ يَهْرِقُ فنّه
هدْراً على الأقْدامِ والأعْتابِ
الويلُ للحسّاسِ في دُنْياهمُ
ماذا يلاقي من أسىً وعذابِ
لقد تأثّر الشابي كثيراً بالثقافة الأوروبيّة رغم أنه لمْ يكنْ يُجيدُ أيَّ لغةٍ غير العربية، ويعود هذا التأثر إلى قراءاته المكثفة في مُترْجمات الآداب الأوروبية، ففي عام 1920م أرسله والدُه إلى العاصمة التونسية وهو في الحادية عشرة من عمره للدراسة في جامع الزيتونة، وفي العاصمة تونس بدأتْ تلوحُ أماراتُ التميّزِ والابداعِ عند هذا الشابِ النحيل، وتولّدت في نفسه سماتُ شغفِ المعرفةِ وحبّ الاطلاعِ، فانهمكَ في القراءةِ الغيرِ منضبطةِ في توجّهاتِها الفكريّةِ حتّى تأثر كثيراً في أفكارِه وتوجّهاتِه الذهنيّة بالفلاسفةِ الفرنسيّين، فكان زائراً يومياً لأهم مكتبتين في تونس، مكتبة قدماء الصّادقية والمكتبة الخلدونيّة، فكان مواظباً على حضور كل الندوات العلمية والنقاشات الفكرية.
تظهر عبقريته الساحرة في تجربته الشعرية القصيرة التي لا تتجاوز العشرة أعوام فقط (1924م- 1934م)، ففي هذا العقد الزمني اليسير أنجز الشابي ديوانه الذي أسماه (أغاني الحياة) لكنه لمْ يتمكّن من طباعته بسبب موته المفاجئ، بلْ إنّ هذا الديوان لمْ يُطبعْ إلا بعد وفاة الشاعر بعشرين عاماً!!.
نالَ الشابيُّ بعض الشهرة في حياته، وعندما بدأ بنشر قصائده في مجلة أبولّو المصرية أُعجبَ به كثيراً رئيسُ تحريرها الطبيبُ الشاعرُ أحمد زكي أبوشادي، بلْ وطلب من الشابّ الصغير أنْ يكتبَ له مقدمة ديوانه (الينبوع)، فكانت هذه المبادرة شهادةً مبكرةً لنبوغِ الشابي وشاعريته الكبيرة، لكنّ شهرتَه الطاغيةَ نالها بعد وفاته بسنوات كثيرة، ففي عام 1953م تُرجمت قصائده إلى اللغة الفرنسية ونشرتها دار سغرز الفرنسية، وفي عام 1984م تم اعتماد الجائزة الأدبية التونسية الكبرى باسم أبي القاسم الشابي تخليداً لذكراه، وهي جائزة ثقافية كبيرة تُمنح سنوياً لكبار الشعراء والأدباء في تونس، وفي عام 1997م تم اعتماد صورته على العملة التونسية فئة عشرة دينار، وتم إصدار العديد من طوابع البريد التي تزينت بصورة الشابي، كما تمّ إطلاق العديد من الشوارع الرئيسية في المدن التونسية باسمه تخليداً لشاعرهم الكبير.
لقدْ تحوّل الشابيُّ اليوم إلى علامةٍ ثقافيةٍ رسميّةٍ لبلاده تونس، وأصبح اسمُه أيقونةً للذاكرة الأدبية في بلده مما دعا بعض الأدباء التونسيين إلى قتل هذه الأسطورة في وجدان الشعب التونسي لأنّ الشابي قدْ أصبح عائقاً كبيراً وسدّاً منيعاً أمام المبدعين الجُدد، تقول الأديبة والناقدة علياء بن نحيلة: لقدْ تحوّل الشابي إلى الشجرة التي امتدت عالياً فحجبت غابة المبدعين الذين أتوا من بعده!!.
أنا ياتونس الجميلة في لجِّ
الهوى قدْ سَبحْتُ أيَّ سِباحة
شِرْعتي حُبّكِ العميقِ وإني
قدْ تذوّقتُ مُرّهُ وقَرَاحَه
يُعْتبرُ أدبُ الشابي انعكاساً جلياً لشخصيتّه المُرْهفة بكلّ أبعادها الإنسانية التي تصلُ أحياناً إلى حدِّ التناقض، فبين أبياته وأشعاره يجدُ القارئ معاني التشاؤم والإكتئابِ والشقاءِ وكراهيةِ الناسِ وعداوةِ المجتمع!، وفي نفس الوقت، سيجدُ كل معاني الحب والطفولة والبراءة والأنغام والجمال والفن، فهو يُجسّدُ بذلك الأدب الرومانسيِّ الوجدانيِّ بكل صورِه ومعانيه، كما يجدُ المتلقي اضطرابَه النفسيَّ واضحاً من خلال امتزاج قوته وضعفه معاً، ففي الوقت الذي تجدْه قوياً عنيداً يتحدّى القدر والمجتمع تجده أيضاً ضعيفاً كئيباً مُسْتسلماً لأيِّ شيء، فهذه القوة التي يُظْهرها أحياناً في شعره يُقابلها ضعْفاً حسيراً من الجهة الأخرى، فهذه النفسيّة الرقيقة المرهفة لا تحتملُ سهام النقد الموجعة، وهنا نجده يهربُ دائماً من الخارج إلى الداخل، من المجتمع والناس الذين كرههم بضراوة:
وبعيداً عن المَدينةِ والنّاسِ
بعيداً عن لَغْوِ تِلْكَ النّوادي
فهوَ من مَعْدَنِ السَّخافةِ والإفْكِ
ومن ذلك الهُراء العادي
إلى الداخل، حيثُ وجدانه المُرْهف الذي يرسمُ له خيالاً سعيداً بالعيشِ في الجبلِ الشاهقِ المطلِّ على الغابة الخضراء، هناك حيث الوحدة النفسية التي تملأ روحه بالسعادة، ولا يُعكّر صفوه فيها أحدٌ من الناس:
في الغابِ في الجبلِ البعيدِ عن الورى
حيثُ الطَّبيعَةُ والجمالُ السَّامي
وأَعيشُ عِيشَةَ زاهدٍ متَنَسِّكٍ
مَا إنْ تُدَنِّسْهُ الحَيَاةُ بِذَامِ
هجرَ الجماعَةَ للجبالِ تَوَرُّعاً
عنها وعَنْ بَطْشِ الحَيَاةِ الدَّامي
وهذه الفكرةُ تتردّدُ كثيراً في شعرِ الشابي لا سيّما في السنواتِ الأخيرةِ من حياته:
وأغنِّي مع البلابلِ في الغابِ
وأُصْغي إلى خريرِ الوادي
وأُناجي النُّجومَ والفجرَ والأطيارَ
والنَّهرَ والضّياءَ الهادي
عيشةً للجمالِ والفنِّ أبْغيها
بعيداً عنْ أمَّتي وبلادي
فوجعه بفقد والده ومرضه العضال وعدم تقبله لنقد شعره وأدبه، جعلته يهربُ من واقعه المُرِّ إلى أنْ يغرقَ في بحرِ الرومانسية الحالمة تجاه الغاب والجبل متوحّداً مع نفسه، فهذا هو معنى السعادة من وجهة نظره:
وإنْ أَردتَ قضاءَ العيشِ في دَعَةٍ
شعريَّةٍ لا يُغَشِّي صَفْوَها نَدَمُ
فاتركْ إلى النَّاسِ دُنياهُمْ وضَجَّتَهُمْ
وما بنوا لنِظامِ العيشِ أَو رَسَموا
واجعلْ حياتَكَ دوحاً مُزْهراً نَضِراً
في عُزْلَةِ الغابِ ينمو ثمَّ ينعدمُ
هذه الرومانسية المُوغلة في وجدان الشابي تُفاجئه كثيراً بصدمة الواقع المرّ، فمثلاً كيف يصنعُ بوصية والده تجاه أمه وإخوته الصغار؟!، لا شكّ أنّ مرارة الخارج قدْ أيقظتْ أحلام الداخل في نفسه:
فأَعيشُ في غابي حَياةً كُلُّها
للفنِّ للأحلامِ للإلهامِ
لكِنَّني لا أَستطيعُ فإنَّ لي
أُمًّا يَصُدُّ حَنَانُها أَوهامي
وصِغارَ إخوانٍ يَرَوْنَ سَلامَهُمْ
في الكَائِناتِ مُعَلَّقاً بسَلامي
فَقَدوا الأَبَ الحاني فكنتُ لضُعْفِهم
كهفاً يَصُدُّ غَوائلَ الأَيَّامِ
وهكذا، استسلمَ الشابي وتنازلَ عنْ أحلامِه وخيالاته، فرضي العيشَ في واقع المدينة:
وأَنا الَّذي سَكَنَ المدينَةَ مُكْرَهاً
ومشى إلى الآتي بقلبٍ دامِ
يُصْغي إلى الدُّنيا السَّخيفَةِ راغماً
ويعيشُ مِثْلَ النَّاسِ بالأَوهامِ
ليستمرُّ الشابيُّ في هجومه على الظروفِ الصعبةِ القاهرةِ التي كبحتْ جماحَ أحلامَه وطموحاته، وعلى تقلبات الدنيا التي لمْ ترحمْه:
هَجَمَتْ بيَ الدُّنيا على أَهْوالها
وخِضمِّها الرَّحْبِ العميقِ الطَّامي
من غيرِ إنذارٍ فأَحْمِلَ عُدَّتي
وأَخوضُهُ كالسَّابحِ العَوَّامِ
فتحطَّمتْ نفسي على شُطْآنِهِ
وتبخّرت في جَوِّهِ أحلامي