د.حسن مشهور
في ثمانينات ولن أقول -منتصف- القرن الميلادي المنصرم، ظهر على الساحة الثقافية السعودية وعبر نوافذ تكاد تكون شبه مشرعة مجموعة من الشعراء الشباب الذين كانوا قد طالعوا تلك المحاولات الشعرية التجديدية لبعض الأدباء في العراق والشام ومصر، فكان لهذه التجارب التجديدية في البنية التشكيلية للشعر أثرها المتعالي على عقولهم وأناهم، الأمر الذي دفعهم لممارسة التجريب في حقل كتابة القصيدة على ذات المنوال الذين طالعوه لهؤلاء الشعراء العرب عبر وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة التي على الرغم من اتسامها بالمحدودية حينذاك، إلا أنها قد أحدثت أثرًا فاعلاً على وجدان وفكر هؤلاء الأدباء الشباب، فكان أن اندفعوا بكل همة وجهد لممارسة الكتابة في هذه الحقل الشعري الجديد، وكان هذا الأمر إيذانًا بولادة قصيدة النثر في الأدب السعودي.
هؤلاء الشعراء البراغماتيون الذين صدف أن التقيت أكثرهم في مناسبات عدة، بل ووظّفت شعر أحدهم كمدخل تفكيكي لدراسة سوسيولوجية تناولت المجتمع السعودي في الثمانينات والتسعينات القرن الميلادي المنصرم، أجدني الآن وأنا استعيد جهدهم وما جابهوه من مصاعب عدة، وما مروا به عوائق وخلاف مع كتاب ونقاد القصيدة التقليدية، أقول بأنهم قد كانوا فرسان ذلك الزمان، وبأن البعض منهم قد رحل دون أن يحتفى به وبنتاجه وبجهده الفكري وفق ما ينبغي أن يكون.
حقيقةً، إن قصيدة النثر قد كانت ولا تزال -في تقديري- واحدة من أكثر الأشكال الشعرية إثارة للجدل، بين مؤيد يرى فيها تحررًا من القيود التقليدية، ومعارض يعتبرها خروجًا عن جوهر الشعر، إلا أنها رغم ذلك قد تمكنت من فرض نفسها كفن تعبيري قادر على التعبير عن هموم الإنسان المعاصر بلغة مكثفة ومشهدية بصرية فارهة.
وأقول بكل تجرد بأنه ربما إن ما جعل من قصيدة النثر أمرًا واقعًا لا بد من التعاطي معه في الأدب السعودي، هو إصرار أولئك الشعراء الشباب آنذاك على هدفهم وإيمانهم بأنهم يحملون تجربة أدبية جديدة لا بد أن ترى النور، هذا إلى جانب إنه قد كانت لقصيدة النثر جملة من الخصائص قد جعلت من عملية الإقبال عليها أمرًا جاذبًا لأولئك الشعراء، لا سبيل لهم لمقاومته، من ذلك أنه رغم اعتماد قصيدة النثر في بنيتها وتشكيلها على لغة يومية معيشة، إلا أن هذه اللغة تحمل في ذاتها شحنات دلالية عميقة، الأمر الذي يمنحها المزيد من التكثيف والانزياح. هذا إلى جانب اتسام قصيدة النثر بقدرتها على تكثيف الصورة الشعرية في مشاهد سريعة متوالية، الأمر الذي مكنها من تحقيق مشهدية بصرية تعلق في ذهنية القارئ الافتراضي، بحيث أنه بمجرد أن يعايش موقفًا حياتيًا مستقبليًا، حتى يجد بأنه بشكل لاإرادي يستحضر قصيدة النثر التي كان طالعها في السابق وقرأ في ثناياها ذات المشهدية التي يعايشها في وقته الراهن.
كما أن تحرر قصيدة النثر من الإيقاع رغم احتفاظها في رأيي بإيقاعها الداخلي، قد منحها المزيد من الحرية في التعبير، وخصوصاً أن الوزن والقافية تعد من المقيدات التعبيرية وتتطلب في رأيي بالتالي أمرين اثنين لا ثالث لهما؛ أما أن يلتزم الشاعر باللفظ الذي يحقق مبدأي الانسجام والتوافق مع النص حتى وإن كان يتسم بالضعف النوعي في دلالته التعبيرية، وإلا أن يعود لأمهات المعاجم ليبحث عن مفردة تحقق بلاغة التعبير الأمر الذي يفقده الاتصال الذهني مع حالة الولادة الذهنية لهذه القصيدة، هذا إلى جانب إنه نادرًا ما أن يجد لفظة تعبيرية تحقق هدفه من تشكيل النص، وفي ذات الوقت تحقق البعد الإفهامي لمجمل القراء. ولا ننسى أيضًا إن قصيدة النثر بتحررها من التقييدات البنيوية التاريخية، قد تمكنت من التطرق لقضايا وجودية تلامس الذات المعبرة للشاعر ومشاعر العزلة الوجدانية لديه وعلاقتة المجازية بالمكان.
ولنتأمل بعد وعمق هذا التعبير للراحل محمد الثبيتي الذي يعد من أكثر الكتابات الشعرية تعبيرًا عن التيه ومشاعر العزلة الذهنية:
مَنْ أَنْتَ؟
رَجُلٌ مِنْ طَيْ
أَرهَقتُ كتائبَ أيَّامي
في الإبحارِ إلى اللا شيْ
مذ عانيت العشقَ
أمزِّقُ ثوبِي، جسدي
وأداوي عشقي بالكَيْ.
إننا عندما نتأمل التتالي التاريخي لمشهدية قصيدة النثر في الداخل السعودي، سنلحظ بأنها قد واجهت العديد من الانتقادات الحادة، خاصة من أنصار الشعر العمودي والتفعيلي الذين رأوا فيها تمردًا غير مبرر على الأصول الشعرية التقليدية، بل واتهمها البعض منهم بالغموض المفرط، بل إن منهم من غالى في الخصوصية فاتهمها بالابتعاد عن الهوية المحلية.
وهذا الأمر قد نفاه البعض من مؤيديها الذين رأوا فيها انعكاسًا لروح العصر ومواكبةً لتحولات المجتمع السعودي الحديث، هذا إلى جانب أن مشاعر النوستالجيا المجتمعية يمكن للشاعر اختزالها في أناه وذهنيته الفاعلة ومن ثم التعبير عنها كتجربة شخصية ذاتية في الشكل ولكنها جمعية في التوجه، ولنقرأ لعبدالله الصيخان النص الشعري التالي:
من هاهنا.. نهر الطفولة مر
هذي سدرة الجيران تسدل ظل خضرتها على الجدران
وضممت لي من سدرها ما يملأ الكفين..
ثم شممته..
فرجعت طفلا
الله يا نهر الندى
قد كنت أحلى؟
من هاهنا نهر الطفولة سال
فانسابي وئيداً يا خطاي
بين ما يدع المكان على التراب
وبين ما يدع الفتى تحت الأظافر من تراب.
في تقديري ربما قد تكون الإشكالية الأكثر تأثيرية التي واجهت ولا تزال قصيدة النثر وأدت إلى تولد العديد من الإسقاطات عليها، هو توجه الكثير للكتابة فيها ممن لا يملك الموهبة أو الدراية الكافية أو القراءة المتعمق لماهية قصيدة النثر وآلية التعبير من خلالها. وهذا أمر أو صنيع قد يكون أغضب العديد من الشعراء والنقاد، إلا إني أرى في بعض جوانبه ملمحًا جيدًا، وأمرًا محمودًا يتمثّل في زيادة المهتمين بهذه الأنواعية الشعرية، إلى جانب تعزيز حضوريتها في المشهدية الثقافية السعودية، وهو الحضور الذي يمكن لصانع الثقافة لدينا أن يعزِّزه عبر تنظيم مسابقات وجوائز تمنح للمبدعين من الكتاب فيه مما يسهم في تمكين الجيد منه وتعزيز عملية التجديد البناء في الأدب السعودي.