حامد أحمد الشريف
قد لا يكون الروائي الفرنسي «البير كامو» أول من تحدث عن ذلك النوع من الغربة التي تشعر بها وأنت وسط أهلك ومحبيك، وفي بيتك، وأرضك، وبينك وبين نفسك، أو لنقل تلك الغربة الداخلية التي تفصلك عن ذاتك، وتدخلك في صراع معها. لكنه بالتأكيد أفضل من تطرق إليها، وأحسن تقديمها، وأقنعنا بها، وجسدها على أرض خيالاته بطريقة غاية في الإبداع والجمال، من خلال روايته العالمية «الغريب» الصادرة في عام 1942م كأول عمل روائي للمؤلف، وقد حازت جائزة نوبل للآداب. وكنت قد طالعت نسختها المترجمة المنشورة عن طريق دار الآداب بترجمة «عايدة مطرجي إدريس» وتقع في 150 صفحة من القطع المتوسط.
حظِيَت هذه الرواية بالطبع بعدد هائل من القراءات النقدية والانطباعية، وتناولها كثيرون من الخاصة والعامة بحكم صغر حجمها وسهولة تلقيها وقلة أحداثها وشخوصها، وعمرها المديد، وذيوعها وانتشارها بسبب الجائزة الكبيرة التي نالتها، وذهب بعضهم للحديث عن هذه الرواية مذهب أنها تمثل الكتابة العبثية، وأنها أخذت قيمتها من هذا الباب، أي أنها لم تأتِ بالصورة المعهودة عن الأعمال السردية ببداية مستحوذة ونهاية مدهشة، وبالتسلسل الحدثي المتنامي الذي يعبر عن عقدة ما، عقدها وحلها، والصراعات التي تتوهج وتتصاعد ألسنتها ثم ما تلبث أن تنطفئ تدريجيًا وتخمد في نهاية الأمر، والشخوص الذين ينتظمون بهيكلية معينة، و»الزماكان» الذي يؤطر كل ذلك ويخلق لنا فضاءً رحبًا من الخيالات الجميلة نعيشها بكل حواسنا، فهي بالفعل لم تكتب على هذا النحو مطلقًا.
وإذا ما نظرنا إلى العمل على هذا النحو، فإنه بالفعل عبثي إذ لا شيء من ذلك موجود في هيكلية العمل وخطوطه الرئيسة، فهناك فوضى عارمة حقيقية تصطحبنا طوال العمل، يصعب معها رؤية الانتظام الحكائي المعهود وذروة الصراع المنشود، وبالأخص الزمان والمكان إذ إنهما أُهملا تمامًا؛ ولم يتم ذكرهما إلا لمامًا، من دون أي اتصال بالحكاية الرئيسة، فالجزائر كفضاء مكاني كبير احتوى الحكاية، غاب تأثيره عليها، ولم يتماس معها بشكل واضح، ولم يحدد اتجاه الحكاية، أو يتداخل مع صراعاتها، وأريدَ به فقط إيهام القارئ البسيط أن البطل غريب بالفعل عن وطنه، كونه فرنسي مقيم في الجزائر، ومنح القارئ الحصيف جائزة اشتغاله على النص واكتشافه نوع الغربة المقصودة، ما يعني أن الكاتب أراد بالفعل تهميش المكان ولم يكن حدثًا عرضيًا.
إن تهميش المكان قد طال بالفعل كامل السرد، بكل مستوياته، ولم يحضر إلا بما يحتاجه الصراع في حده الأدنى، وبالتالي فهو لا يعد على الإطلاق من جماليات السرد كما هو معتاد، ويظهر ذلك من البداية في وصف الحكاء المتكلم للمكان الذي تقيم فيه والدته بقوله ص9: «إن مأوى العجّز في مارنغو هو، على بعد أربعة وعشرين كيلو مترًا من مدينة الجزائر». انتهى كلامه.
وقوله ص10: «يبعد المأوى كيلو مترين عن القرية،» انتهى كلامه. وكما يلاحظ هنا أن المؤلف لم يأتِ بأي وصف يخص المكان بل تركه مبهمًا بالمطلق، وذكره فقط بوصف كمي حتى يوقفنا على تنقلاته من مكان سكنه إلى النزل لحضور مراسم الدفن التي عبرت عن شخصيته، وهي الجزء الأهم في هذا العمل كما سيأتي لاحقًا.
هذا الوصف المكاني الشحيح، كان نهجًا متبعًا في كامل العمل، كقوله على سبيل المثال ص27: «وقرّرت أن أذهب للسباحة. أخذتُ الترام لأذهب إلى مؤسّسة حمّامات المرفأ، وهناك غطستُ في المضيق.» انتهى كلامه. أي أنه اتبع نفس النهج، فلم يصف هذه الحمامات والمضيق بأكثر مما ذكرت، وذهب بعدها للحديث عن صديقته «ماري كاردونا» التي التقاها في ذلك اليوم، وقضى معها بقيته من دون تخطيط مسبق، وبالتالي همش المكان وعاد للفوضى الحياتية التي يعيشها وهو يصف أحداث ذلك اليوم كاملًا.
تكرر هذا الإهمال المتعمد مع الزمن الذي غيب بشكل كبير، وكان حضوره هامشيًا جدًا وفي حالات الاضطرار فقط، من دون بيان أهمية معينة تجعلنا نتوقف عنده ونتحدث عنه، فهو زمن وصفي يتطلبه الحدث فقط، وقد عبر الكاتب بطريقة واضحة وصريحة عن تهميشه للزمن من خلال مدخله للسرد في قوله ص9: «اليوم، ماتت أمِّي. أو ربّما ماتت أمس، لست أدري. لقد تلقّيت برقيّة من المأوى تقول: «الوالدة توفّيت. الدفن غدًا. احتراماتنا». إنّ ذلك لا يعني شيئًا، ربّما كان ذلك أمس.» انتهى كلامه. وكما يلاحظ هنا أن الكاتب أظهر عدم اهتمامه بالزمن من البداية، حتى في هذه الصورة البسيطة بتحديد زمن الوفاة بشكل دقيق، وكان بالفعل صادقًا في تعاطيه مع الزمن الذي لم يعنِ له شيئًا، وظل عبثيًا بشكل لا يوصف وهو يتحدث عنه في كل مفاصل الرواية، وبدا أنه يذكره كحالة اضطرارية عندما يرتبط بحدث ما.
إن القيمة المعرفية التي نجنيها هنا كمتلقين نتعلم أساليب السرد وأسراره الإبداعية من هؤلاء العمالقة الذين أسسوا لهذا الفن ووضعوا قواعده غير المكتوبة، تتلخص في أن عناصر الرواية الأربعة الزمان والمكان والشخوص والصراع تقدر بقدرها، فتحضر وتغيب حسب احتياجات النص، لا كما يظن بعض المتحمسين أو الحفاظ، بأن قيمة العمل السردي ترتبط بمساحة هذه العناصر داخله، واشتغال المؤلف عليها.
بالطبع قد لا يكون الكاتب معنيًا بقول كل ذلك وإنما أتت بسليقة إبداعية، لكننا معنيون في نقدنا بالتقاطها والتعلم منها، فالإبداع المنشود يحاكى بداية قبل الانطلاق بالإبداعات الشخصية الأصيلة، ويستحيل أن يكون قواعد وأسس لا فكاك منها، وإلا لفقد قيمته الإبداعية، والشاهد هنا أن اهتمام المؤلف انحصر في المكون الأساس؛ ألا وهو الإنسان الذي استغرقه تمامًا، ووظف بقية العناصر لخدمته، والحكايات عامة تأتي بالفعل على هذا النحو إن لم نتدخل لإفسادها، فالحكاء يسرد ما يخدم حكايته من مكان وزمان وشخوص وصراعات، بالقدر الذي تحتاجه الحكاية فقط ولا يزيد ولا ينقص على ذلك.
ولكن، قد يأتي من يقول إن تهميش الزمن كان ضمن الأدوات التي استخدمها المؤلف في صناعة شخصية البطل، وهذه قيمة حقيقية لا يمكننا إنكارها إذ إن غربة البطل ارتبطت كثيرًا بالزمن الذي فقد قيمته بالنسبة له، ولا أدلَّ على ذلك من عدم التفاته له رغم ارتباطه بفقد أغلى إنسانة في الوجود، وقد تكرر ذلك كثيرًا في مجمل العمل كقوله على سبيل المثال ص63: «في الشارع، كان النهار، المليء بالشمس، يصفعني لأنني كنت متعبًا ولأننا لم نكن قد فتحنا النوافذ.» انتهى كلامه.
ويظهر هنا عدم مبالاته واستهتاره الكبير في وصف الزمن، وهذا يقودنا للإقرار بأن المؤلف وظَّف تهميش الزمن لإظهار اضطراب الشخصية واعتلالها الداخلي، فهو يأتي على الزمن بشيء من اللامبالاة، ويظهر انعكاسه على تفاعلاته الزمانية وحواراته، وهذا دور مهم لعبه الزمن، وكان له مساس بالحكاية طالما وظف لإظهار اضطراب الشخصية، وبالتالي لا يمكن انكاره، ما يعني إن التهميش يمكن أن يكون قيمة هو الآخر كما هو الحال مع التبجيل والتعظيم، فكل هذه المقادير المختلفة تحمل دلالات معينة يمكن استخدامها في السرد وتوظيفها في الأبعاد القيمية المضمرة داخل النصوص..
ولكن، ذلك يقودنا إلى أن هذا العمل السردي يتعلق بالإنسان الذي منح مساحة السرد كاملةً، وشكل بالتالي الزمان والمكان والصراع، أي أن تهميش الزمن وإن كان ضمن الأدوات التي استخدمها السارد؛ إلا أنه يظل حضورًا خافتًا طالما وُظف في رسم أحد عناصر السرد الأربعة وهو الشخصية، وبالتالي فقد قيمته كمكون أساس وركن مهم، وتحول إلى مجرد أداة ترسم صورة البطل، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه سابقًا بأن عناصر السرد تتشكل قيمتها من خلال الحكاية المسرودة وتأثيرها عليها.
وبالعودة للعبثية التي توصف بها هذه التجربة السردية، فهي متحققة بالفعل في إهمال أركان العمل السردي فلا نجد الزمان بذلك الوهج، ولا المكان، وغاب الصراع بمعناه الكبير، حيث نجد الحكاية كاملة يمكن تلخيصها في أقل من سطر، فالبطل قام بقتل عربي على الشاطئ بإطلاق خمس رصاصات بينها فاصل زمني بسيط وثم القبض عليه ومحاكمته وإصدار حكم بقطع رأسه بالمقصلة، خلاف بعض التفاصيل الصغيرة التي تغذي هذه الحكاية وتوصل مغازيها وتقودنا إليها، لا شيء في الرواية كصراع كبير يجمع شتاتها غير ذلك، ما يعني أن «البير كامو» أراد تهميش كل العناصر عدا الإنسان.
هذا العبث الكبير الذى مارسه الكاتب بقواعد الكتابة وإهماله العناصر التي يبحث عنها المقولبون، لم يكن كذلك على الجانب الآخر فقد اهتم كثيرًا بالجزء الذي يعنيه من هذا السرد وهو الإنسان بكامل حياته بتفرعاتها النفسية والوجدانية والفكرية، أي أن هذا العمل ليس عبثيًا على الإطلاق إذا ما نفذنا له من خلال هذا الإنسان الذي شكل الحكاية كاملة وبالتالي غيبَ المكان والزمان والصراعات بصورها المعتادة، وخلقَ لنا فضاءً سرديًا يخلو من كل ذلك كونه يقع داخل عقل وجسد ووجدان هذا الإنسان، وهو ما برع في كتابته «البير كامو» ودفعنا لإخراج هذا العمل من كل التصنيفات التي تراه عملًا وجدانيًا أو فلسفيًا، فهو لا يمثل أيًا من هذه الاتجاهات المؤطرة، وإنما هو عمل إنساني؛ يتعلق بالإنسان.
إن الحكاية في هذه الراوية الإبداعية كما أسلفت تتشكل داخل جسد إنساني يحتوي كل الصراعات والأزمنة والأمكنة، ولا يمكننا قراءتها خارج هذا الجسد بمكوناتها الوجدانية والعقلية والفلسفية، وسمح له أيضًا بقيادة الصراعات الخارجية باحترافية عالية جدًا، وقد تعمد المؤلف إطلاعنا على هذا الخط الرئيس من البداية وهو يظهر خواء الشخصية وتجردها من المشاعر بالكلية من خلال حديث «مارسو» عن والدته في قوله ص11: «فعندما كانت أمِّي في البيت، كانت تمضي وقتها وهي تتابعني بعينيها صامتة. وفي الأيّام الأولى التي نزلتْ فيها المأوى، كانت تبكي غالبًا، ولكن ذلك كان بسبب العادة. فبعد عدّة أشهر، كانت ستبكي ل و أنّهم سحبوها من المأوى بسبب العادة أيضًا،» انتهى كلامه. ما قاله «مارسو» هنا يظهر بالفعل الخواء الذي نتحدث عنه، فهو لا ينظر إلى العلاقة الإنسانية السامية التي تربطه بوالدته ولم يُظهر أدنى احترام وهو يتحدث عنها مستخدمًا مفردة «سحب»، وغيب تمامًا مشاعر الأم، ووصفها بأنها مجرد ارتباط بالمكان سيزول بعد فترة بالاعتياد الجديد، ولعل إتيانه بوصف العلاقة بين الإنسان والمكان على لسانه، وعدم نقلها عن والدته؛ يشير إلى أن هذا الشعور ملازم له هو، وألا علاقة لوالدته به، وبالتالي فالمكان في نظره مجرد اعتياد معين يمكن التخلي عنه بعد فترة، والواقع أن ارتباط البطل بكل المكونات المادية وغير المادية كان هشًّا، وبالتالي ظهرت قراراته باهتة لا قيمة لها مطلقًا، تتسم بالتسليم المطلق لأي مقترح يلقى عليه، والموافقة من دون تفكير، وبدا أنه لا يعلم سبب اتخاذه بعض القرارات الفردية، أي أنه لا يملك مبررات لقراراته تستدعي محاسبته عليها، وكان في ذلك وصف رائع للغربة الداخلية التي يعيشها، يمكننا ملاحظتها من البداية في حواره مع الحاجب عند اقترابه من نعش والدته، يقول ص13: «كان يقترب من النعش عندما أوقفته، فقال لي: «ألا تريد؟» أجبت ((لا)). توقف. كنت متضايقًا لأنّني كنت أحسّ أنه لم يكن عليّ أن أقول ذلك. بعد فترة، نظر إليّ وسألني: ((لماذا؟)) ولكنْ من غير عتاب كما لو أنّه كان يستعلم. قلت: ((لا أدري))،» انتهى كلامه. وكما يظهر هنا أنه كان مترددًا، ولا يدرك أسباب قراراته الكارثية واللا إنسانية، ما يعني أنه لم يكن سيئًا، بقدر ما كان خاويًا لا يحمل الأبعاد الشعورية المعتادة للإنسان التي تضبط سلوكياته، في وقت لا يمكن للآخرين رؤيتها بهذه الطريقة حتىإن تقبل الحاجب موقفه واستجاب له، ولم يعلق، لكنه، كما سيأتي لاحقًا حفظ ردود فعله تلك واحتكم إليها في نظرته للأبن العاق عندما طلب للشهادة في المحكمة، وأعاد سرد كل قراراته الغريبة.
وكان في ذلك بالتأكيد بعدًا غاية في الجمال يمكننا الوقوف عليه يشير إلى أن سلوكياتنا مرصودة وإن لم نجد تفاعلًا ظاهريًا معها، وأن السلبية لها ذات التأثير الموازي لإيجابية التعاطي، وإن كان «مارسو» لا يتعمد أن يكون سلبيًا أو إيجابيًا، فهو كما ذكرنا يعبر عن الخواء الداخلي الذي يشعر به ويمنعه من اتخاذ أي قرار، فيفضل المضي في الحياة بممارسات أشبه ما تكون بالحيوانية، حيث تنحصر اهتماماته في المطعم والمشرب وممارسة الجنس بطريقة بهيمية دون أي قيود، وهذا بالضبط ما كان يمارسه البطل في كامل الحكاية، حتى إنه لم يتوقف كثيرًا عند رغبة «ماري كاردونا» في الزواج منه، كما يظهر في قوله ص57: «في المساء.، أتت ماري تزورني، وسألتني إن كنت أريد أن أتزوّجها. فأجبتها إنّ ذلك كان سواءً لديّ، وأنّنا نستطيع أن نتزوّج إذا كانت تريد ذلك.» انتهى كلامه.
وهكذا نرى بالفعل غياب الصراعات بالمطلق وخلو القرارات من أي قيمة حقيقية حتى عندما كان الأمر مهمًّا ويتعلق بتشارك الحياة مع شخص آخر، فكان تعاطيه مع هذا الأمر مستفزًا، حيث القرار الذي عبر بالفعل عن خواء حقيقي تعيشه الشخصية، وهي الغربة التي نتحدث عنها، إذ ليس بداخله أي محددات تخلق صراعات يترتب عليها قرارات، وهذا الأمر تكرر كثيرًا حتى وصل إلى سلبيته المتناهية أثناء محاكمته، وجدناه يتعامل مع المحقق بلا مبالاة صادمة، وكأنه متهم بشجار عادي لا يتخطى العراك بالأيدي، بينما هو قد أفرغ خمس رصاصات في جسد «الرجل العربي» أمام الجميع، دار وقتها الحوار مع المحقق بطريق غاية في الاستفزاز ليؤكد لنا الخواء الذي نتحدث عنه ولكن، بتنا نلاحظ انتظامًا من نوع مختلف يتكرر حدوثه، وكأن العبث انتظم بالفعل وشكل لنا هذه الشخصية العجيبة يقول ص 81: «وسألته هل من الضروري حتمًا اختيار محام. سألني ((لماذا)). فأجبت إنّني أرى أنّ قضيتي بسيطة جدًا.» انتهى كلامه.
وهكذا نجد أن الفراغ الهائل المتشكل داخل شخصية «مارسو» بدأ بالفعل ينتظم وأصبحنا نستطيع توقع ردوده قبل نطقه بها، فهو كما أسلفنا لا يعيش أي صراعات؛ مهما كانت مستوياتها، وقراراته فورية بدون أي محددات، كما أنه لا يفكر في تأثيرها المستقبلي ويتصرف بعفوية قاتلة.
الجميل في هذه المقاربة النفسية الرائعة التي أجاد المؤلف تجسيدها، أن هذا الخواء الذي عاشته الشخصية والغربة الحقيقية التي أطرتها، لم تكن كذلك في المجتمع، فكل قراراته الجوفاء؛ رصدت واستعيدت في لحظة ما عند وقوع الجريمة، واستخدمت ضده حتى أوصلته للمقصلة، فالمحقق والشهود والمحامي والمجتمع أعادوا كل تلك المشاهد، ووظفوها لإدانته، وفي ذلك بعد فلسفي غاية في الجمال وترشدنا إلى أن اعتلالاتنا النفسية الداخلية لها انعكاسات خارجية توازيها في القيمة، يمكن ملاحظة ذلك في قوله ص116: «نهض المدّعي العامّ، وعلى وجهه علامات الجِدّ، وقال ببطء، وبصوت وجدته منفعلًا حقًّا، وأصبعُه ممدود نحوي: ((أيّها ا لسادة القضاة، كان هذا الرجل في اليوم التالي لموت أمّه، يأخذ الحمّامات، ويبدأ علاقةً غير مشروعة، ويذهب ليضحك أمام فيلم هزلي. ليس لديّ ما أقوله لكم أكثر من ذلك)).» انتهى كلامه.
وهكذا نجد أن كل ما حدث منه من وقت وفاة والدته حتى يوم وقوع الجريمة أُتي به واستخدم لأدانته، مع أنها قرارات جوفاء لا قيمة لها، وعبرت عن سلبية منقطعة النظير يتصف به البطل، ولم تعبر بالفعل عن مشاعره الحقيقية، أو تشكل قرارات فعلية يمكن محاسبته عليها، لكنها مع ذلك استخدمت بشكل كبير لإدانته، ما يعني أن الغربة والخواء والسلبية التي يعيشها الإنسان؛ له انعكاسات كارثية في محيطه، ولن ينظر لها كقيمة مفقودة، بل كقيمة كبيرة دفعت الجميع لإدانته، والحكم بقتله، وعدم الأسف عليه. في وقت لم يكن مجرمًا ولم يتقصد الوقوع في القتل، وإنما مارسه بالتلقائية والبساطة التي يعيشها في حياته، فهو على استعداد أن يتزوج بدون أسباب منطقية، ولديه أيضًا المقدرة على القتل من دون صراعات قوية وتخطيط مسبق، فالشخص المقتول كان خصمًا لصديقه «ريمون» القواد، والمسدس له أيضًا، ومع ذلك لم يبدِ الندم على ما كان منه، أي أنه مضى حتى نهاية الحكاية وهو لا يعي قيمة قراراته ولا يخاف من تبعاتها، وهو انتظام العبث الذي أحدثكم عنه، يقول ص124: «إلى أن سمعت المدّعي العام يقول: ((أتراه قد عبّر عن بعض الأسف والندم على الأقلّ؟ أبدًا أيّها السادة. إنّ هذا الرجل لم يبدُ مرّةً واحدةً خلال التحقيق منفعلًا بجريمته الفاحشة))!. في تلك اللحظة التفت إليّ ودلّ عليّ بأصبعه، مستمرًا في إرهاقي، من غير أن أفهم في الواقع سببَ ذلك جيّدًا. لا شكّ في أنِّي لم أكن أستطيع الامتناع عن الاعتراف بأنّه كان على حق، إذ إنّني لم أكن آسفًا كثيرًا على عملي؛ ولكنّ هذا القدر من الضراوة كان يدهشي.» انتهي كلامه. وهكذا نجد التباين في ردة الفعل، عندما وظفت سلبيته في إدانته، واستُشهد بها على مدى إجرامه، بينما لايزال على المستوى الشخصي يمارس نفس السلبية، فلا يهتم إلا بالعنف الذي استهجنه في حديث المدعي العام رغم اتفاقه معه على استنتاجه الصحيح بأنه ليس نادمًا.
إن كل ذلك يعيدنا للانتظام الحقيقي الذي كانت عليه ردود أفعال الشخصية وقراراتها، فهي لم تختلف مطلقًا رغم تعدد الصراعات وتفاوت شدتها، ما يعني أننا أمام انتظام معين للعبث، وكذلك توظيف منتظم ومرتب لهذه العبثية من قبل الآخرين، وكأن الحياة تتشكل من هذه الفوضى العارمة التي خلقت لنا صراعًا معينًا وأخذت بأيدينا لإنهائه ووضع عنوانٍ كبيرٍ له.
وإذا ما عدنا للإنسان الذي شكل كل فضاءات هذا العمل السردي بأركانه الأربعة، فإننا لا نقصر هذا الحديث على بطل الرواية الذي أخبرنا بقصته من خلال الصوت المتكلم، وإنما نسحبه على كل شخوص العمل رغم قلتهم، كونهم حضروا بنفس الأهمية النفسية، وشكل كل واحد منهم صراعًا داخليًا وغربة حقيقية وإن تفاوتت قيمتها، وكانت بالتأكيد أقل بكثير من الصراع الأساس الذي عاشه البطل، لكنهم لم يتخلوا عنه في تشكيل الفضاء الإنساني المركب الذي احتوى الجميع، فذلك جاره «ريمون سانتيس» الذي يمارس القوادة ويدعي أنه حانوتي، ومثل جانبًا مهمًا من صراع السرد فهو من أوقد نار الجريمة بالرسالة التي طلب من «مارسو» كتابتها حتى يستدرج فتاته ويوهمها بأنه يريد الاعتذار منها ومن ثم يقوم بضربها والانتقام منها، وكانت حكايته مع هذه المرأة تجسد بالفعل الاضطراب الذي يعيشه هو الآخر كما يظهر في قوله ص42: «كنت أضربها، ولكنْ بلطف، إذا صحّ التعبير. وكانت تصرخ قليلًا، وكنتُ أغلق مصاريعَ النوافذ، وكان ذلك ينتهي ككلّ مرّة. أمّا الآن فالضرب كان جدِّيًّا. وأنا أعتقد أنِّي عاقبتها عقابًا كافيًا». انتهى كلامه. وبالتأكيد فإن هذا المشهد المروي على لسان «ريمون» إضافة لكل ما يصف به نفسه، يشير بوضوح لنوع من الاضطراب والاختلال وإن بدرجة أقل.
هذه الغربة والاضطراب لم تسلم منها حتى الشخصيات الثانوية، كتلك الفتاة الغريبة التي لم تظهر إلا في مشهد واحد فقط عندما طلبت من «مارسو» الإذن بالجلوس على طاولته في المطعم وقامت بعدة تصرفات غير مستساغة وصفها هو بالغرابة عندما تبعها بعد خروجها وفقدانه أثرها، يقول ص 59: «ونادت «سيلست» وطلبت في الحال جميع أطباقها في صوت واضح ومستعجل في وقت واحد. وبانتظار المشهّيات، فتحتْ حقيبتها، وأخرجتْ ورقة مربّعة وقلمًا، وقامت مسبّقًا بالجمع، ثم أخرجتْ من جيبها المبلغ المطلوب وقد أضافت إليه البخشيش، ووضعته أمامها» انتهى كلامه. وهكذا يظهر لنا الحالة المرتبكة التي كانت عليها وهي تجهز مبلغ الوجبة قبل تناول الطعام وتضعه على الطاولة أمامها خلاف جلوسها مع رجل لا تعرفه على طاولة واحدة ومغادرتها بعد انتهائها من الطعام من دون أن تدير معه أي حوار.
هذه الشخصيات المركبة التي تعاني من اضطراب وتنطوي تصرفاتها على غرابة متباينة كانت السمة البا رزة لهذا العمل كما هو الحال مع جاره الشيخ «سالامانو» الذي كانت له حكاية غريبة مع كلبه وقد أظهر المؤلف في كثير من المناسبات الاختلال الكبير الذي عانى منه بعد موت زوجته واستبدالها بالكلب، من ذلك موقفه مع «مارسو» في مدخل البناية عندما اشتكى له ضياع كلبه وحرصه على استعادته، في وقت لم يتوقف عن سب الكلب وشتمه، يقول ص53: «((أعطي مالًا من أجل هذا الجيفة؟ آه! إنّني أفضّل أن يموت)). وأخذ يشتمه» انتهى كلامه. وتأتي الغرابة الشديدة لاحقًا عندما يعود «سالامانو» إلى طرق باب «مارسو» والتحدث معه بطريقة مختلفة كليًا، في قوله ص53: «ومن غير أن يواجهني قال لي: ((إنّهم لن يأخذوه منِّي، أليس كذلك يا سيّد مارسو؟ سيعيدونه لي وإلَّا، فما الذي سيجري لي؟)).» انتهى كلامه وهكذا نرى أن الاضطراب النفسي كان ديدن الجميع كما ظهر في حوار حبيبته «ماري كاردونا» معه عند زيارتها له للمرة الأولى في السجن وهي تعلم جيدًا أنه قتل العربي، نطالع ذلك في قوله ص95: «صرختْ من جديد: ((ستخرج وسوف نتزوّج)). فأجبت: ((هل تظنّين ذلك)) ولكنّ ذلك كان لمجرّد أن أقول شيئًا. وعندها قالت بسرعة فائقة وبصوت مرتفع أنْ نعم، وإنّني سوف أُبرّأ وسنستحمّ أيضًا.» انتهى كلامه. ولعل في هذا الحوار الساذج ما يشير بما لا يدَع مجالًا للشك أن الغربة متجذرة داخل العمل وطالت الجميع بدرجات مختلفة كان أعمقها مع «مارسو».
وهكذا نخلص في نهاية الأمر إلى أن هذا العمل البديع يصف لنا اضطرابًا نفسيًا مختلفًا وعميقًا جدًا اتخذ أبعادًا متعددة، لكنه اتسم بالاتزان والانتظام طوال السرد فـ «مارسو» ظل ثابتًا على موقفه الفوضوي، ولم تتغير نظرته للأمور وقراراته حيالها حتى وضع على المقصلة ولم يعد يفصله عن الموت غير دقائق معدودة، وقتها ختم حكايته بقوله ص150: «كان يبقى لي أن أتمنّى أن يكون هناك كثيرٌ من المشاهدين يومَ تنفيذ الإعدام بي، وأن يستقبلوني بصرخاتٍ مليئةٍ بالحقد والكراهيّة» انتهت الرواية.
عبارته الأخيرة تلك تلخص لنا فلسفة الحكاية كاملة، وتظهر أن الاضطرابات النفسية التي عاشها البطل، كانت منضبطة وليست عبثية، أو لعلنا نقول إن الغريب الذي اصطحبنا معه، أراد إطلاعنا على إنسان من نوع مختلف؛ يمارس العبثية بمنهجية منتظمة، ويحيط به كم هائل من الغرباء الذي احتشدوا في المحكمة ليسمعوا خبر موته ويؤكدوا لنا فلسفة أن الحياة غالبًا ما تكون فوضى ممنهجة.