منيرة أحمد الغامدي
في عالمٍ تتقاطع فيه الأزمات وتشتد فيه توترات السياسة الإقليمية والدولية تواصل المملكة العربية السعودية ترسيخ موقعها كقوة توازن واستقرار تتعامل مع محيطها بوعي استراتيجي وتقدّم نموذجًا ناضجًا في إدارة العلاقات الدولية، يقوم على الحوار وعدم التصعيد وتحقيق المصالح المشتركة.
لقد أعادت المملكة خلال السنوات الأخيرة رسم ملامح سياستها الخارجية على قاعدة واضحة: «الاستقرار أولًا». هذا المبدأ لم يعد مجرد عنوان بل أصبح نهجًا متكاملًا يوجّه تحركاتها في الملفات الساخنة ويجعلها طرفًا مبادرًا في احتواء الأزمات لا طرفًا منخرطًا في صراعاتها. وقد تجلى هذا النهج بوضوح في الموقف السعودي من التصعيد القائم في الإقليم ولا سيما بين إيران وإسرائيل، ففي وقت اتجهت فيه بعض الأطراف نحو التصعيد الإعلامي أو العسكري، اختارت السعودية تفعيل أدواتها السياسية والدبلوماسية بحكمة ومسؤولية مدفوعة برؤية تؤمن بأن الأمن الإقليمي مسؤولية جماعية لا تُدار بالشعارات بل بالفعل المدروس والتواصل البنّاء.
وفي هذا السياق عبّر وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان عن هذه المقاربة بوضوح خلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2023، حيث قال «المملكة تدعو دائمًا إلى ضبط النفس، وتؤمن أن الحوار هو الطريق الوحيد لتجنيب المنطقة المزيد من التوتر والمعاناة.» هذا التصريح لم يكن مجرد موقف دبلوماسي تقليدي بل يعكس اتساق السياسة الخارجية السعودية مع أهدافها التنموية الداخلية، حيث تُعد رؤية المملكة 2030 المرجعية الأساسية التي تربط بين الاستقرار الإقليمي واستدامة التنمية، فالمملكة لا ترى التهدئة هدفًا سياسيًا فقط بل شرطًا جوهريًا لتحقيق النمو والانفتاح وتعزيز مكانتها العالمية.
ولا تقتصر الجهود السعودية على التعبير السياسي بل تمتد إلى أفعال ملموسة ترسّخ صورتها كقوة ناعمة مسؤولة، ومن أبرز الشواهد على ذلك موقفها الإنساني الرفيع خلال موسم الحج الأخير حين تعاملت المملكة مع أكثر من 76 ألف حاج من الجمهورية الإسلامية الإيرانية تأخروا عن العودة بعد انتهاء المناسك، نتيجة ظروف طارئة. في هذا الموقف الإنساني وفّرت المملكة لهؤلاء الحجاج السكن الآمن والتنقلات المنظمة والرعاية الصحية الكاملة والدعم اللوجستي اللازم دون أي اعتبار لخلفيات سياسية أو تباينات دبلوماسية، وقد تصرّفت السعودية من موقعها كراعية للحرمين الشريفين مدفوعة بروح المسؤولية والواجب الديني والكرامة الإنسانية لتؤكد من جديد أن خدمة ضيوف الرحمن فوق كل اعتبار.
هذا المشهد ليس معزولًا عن النهج العام للدبلوماسية السعودية، ففي اتفاق بكين 2023 كانت المملكة الطرف الرئيسي في إعادة العلاقات مع طهران في خطوة فتحت الباب لتهدئة طويلة المدى في منطقة الخليج وهو ما يعكس القدرة السعودية على إدارة التناقضات وتدوير الزوايا دون تفريط في السيادة أو المبادئ. كما أن التوازن السعودي الذكي بين بكين وواشنطن يعكس تحوّلًا نوعيًا في السياسة الخارجية حيث تحتفظ المملكة بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة باعتبارها شريكًا تاريخيًا، وفي الوقت ذاته تعزز شراكتها الاقتصادية والدبلوماسية مع الصين وهو ما مكّنها من التحرك بحرية لحماية مصالحها وتوسيع خياراتها الاستراتيجية.
ولا يمكن إغفال البعد الدولي في قراءة هذا الدور السعودي المتنامي، إذ تنظر كثير من العواصم الكبرى – مثل واشنطن، وباريس، وبروكسل، وبكين – إلى المملكة بوصفها ركنًا متزنًا في لحظة اضطراب إقليمي وقوة عقلانية قادرة على تجنيب المنطقة انفجارات أكبر. لقد أثبتت السعودية من خلال سجل متراكم من المواقف أنها شريك يُعوّل عليه لا فقط في إدارة الملفات الساخنة بل أيضًا في إنتاج البدائل الواقعية حين تغيب الحلول. هذا التقدير الدولي لم يأت من فراغ بل من أداء هادئ لكنه مؤثر أعاد تعريف القوة في المنطقة لا كمن يمسك بزمام السلاح بل كمن يملك قدرة المبادرة والتأثير واحتواء التصعيد قبل أن يفيض عن السيطرة.
إن ما يميّز الدبلوماسية السعودية اليوم أنها لم تعد تُقاس بمقدار حضورها في وسائل الإعلام بل بعمق تأثيرها على الأرض فهي تتحرك بمسؤولية وتبني التحالفات لا على الاصطفاف بل على الاحترام المتبادل، وتسعى إلى خفض التوتر لا من باب الضعف بل من منطلق القوة الأخلاقية والسياسية التي تستمدها من مكانتها العربية والإسلامية.
وفي النهاية، لا يُقاس النفوذ بعلو النبرة بل بعمق الأثر وصدق النية، والسعودية بدبلوماسيتها المتزنة وحضورها الإقليمي والدولي الموثوق ورؤيتها الواضحة للاستقرار تقدم نفسها كقوة استباق واحتواء تبني الأمن وتحتضن الإنسان وتصوغ مستقبلًا مختلفًا للمنطقة بلغة العقل والشراكة والاحترام.