صالح الشادي
عندما فكر (نابليون بونابرت) خلال فترة الوجود الفرنسي في مصر بربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط، قدم إليه تقرير فني باستحالة تحقيق ذلك الأمر بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر الأحمر عن البحر المتوسط، وفق قياسات ذلك الوقت، مما أدى إلى وأد الفكرة بمهدها.
لكن تقريراً فنياً آخر قدمه الفرنسي (فرديناند ديليسبس) في ما بعد، جعل من فكرة إنشاء القناة أمرا يسيرا.. وهو ما تحقق حدوثه زمن (الخديوي إسماعيل) فشقت القناة بشراكة فرنسية، ثم بملكية فرنسية بريطانية.. حتى تم تأميمها في زمن (عبدالناصر) لتصبح قناة السويس من أهم الممرات المائية العالمية، ولتحقق دخلا قوميا للشقيقة مصر بلغ عشرات المليارات من الدولارات، وخلال عقود زمنية محدودة بمعدل وصل إلى 18.7 مليون دولار في اليوم الواحد.
ومثل قناة السويس كمثل العديد من القنوات المشابهة التي ربطت بحار العالم كقناة ستالين التي تصل بحر البلطيق ببحر بارنز، وقناة كييل الموصلة ما بين بحر الشمال وبحر البلطيق، وقناة هوستن التي تصل مدينة هوستن بالبحر، إلى جانب قناة بنما التي تصل المحيط الأطلسي بالمحيط الهادي.
المملكة العربية السعودية، وبمكانتها وإمكاناتها الاقتصادية والسياسية، وتبعا لظروف العصر الراهنة؛ لديها الفرصة لإنشاء أضخم مشروع حيوي، اقتصادي، حضاري، وتاريخي على مستوى العالم، وبتكلفة لا تذكر أو تقارن بغيرها من المشاريع العالمية الجبارة كميزانية.. وبمردود اقتصادي مستمر لا يقل أهمية عن الدخل النفطي، على المدى المتوسط والبعيد.. وذلك من خلال التفكير بإنشاء ممر مائي يربط الساحلين الشرقي بالغربي للمملكة عبر الجهة الشمالية من هضبة نجد.. قناة تشكل في تعرجها شريانا حيويا استراتيجيا، ومظهرا جماليا؛ من شأنه أن يحول الكثير من الأحلام إلى واقع مدهش.. إن إمكانية شق الممرات المائية من خلالها بتتبع الأودية (بالمفهوم العلمي) أمر يمكن تحقيقه بسهولة؛ وسيشكل ولا بد فائدة عظيمة.. إذ إن ربط أحد مرافئ الساحل الشرقي بمرفأ (حقل) أو (ضبا) -مثلا- بقناة بحرية موصلة، وباستحداث أربع أو خمس بحيرات صناعية كبرى متفرقة على طريقها، إلى جانب بناء بعض الجسور والأنفاق.. سيشكل بيئة جديدة ذات خصوصية؛ وسيغير من شكل خارطتنا واستراتيجياتنا الاقتصادية والتنموية نحو الأفضل وإلى الأبد -بمشيئة الله- هذا إذا ما أمعنا النظر في ما يمكن أن يتحقق مستقبلا، من نتائج شمولية مذهلة، وفي زمن قياسي، وبجهد وطني عملاق.
على الصعيد الاقتصادي، يمكن استغلال هذه القناة من قبل السفن والبواخر وناقلات النفط الوطنية والخليجية والعالمية والعابرة ما بين دول شرق آسيا وأوروبا، حيث ستوفر شركات النقل البحري باستخدامها القناة مبالغ ومصروفات طائلة جدا جدا، وستختصر الكثير والكثير من زمن الرحلات الترددية، وستتضاعف لديها فرص الربح التجاري الأمثل.. بالمقارنة مع استخدامها الطريق البحري الحالي الذي يعبر الخليج، مرورا بمضيق (هرمز) ـ المتوتر ـ عبر بحر العرب، وصولا إلى شواطئ الصومال حتى مضيق (باب المندب) على مدخل البحر الأحمر فقناة السويس، أو العكس.
مثل هذا المشروع من شأنه أن يضيف المزيد من الدخل إلى خزينة الدولة.. من خلال ما سيتحقق لها من رسوم عبور، وأمن، وخدمات لوجستية، وأعمال صيانة ودعم فني.. الخ. إضافة إلى ما قد تحققه المملكة من مكاسب سياسية واستراتيجية في كل أوان، كونه ممرا سياديا محليا آمنا لا تنازعها عليه قوى أخرى. فضلا عن ما قد يوفره هذا المشروع ـ بطبيعة الحال ـ من خلق لفرص العمل، وتشغيل للكوادر البشرية، وإيجاد لموارد دخل جديدة.. قد تنعش أجيالا وأجيالا بعون الله.
يؤمن هذا الممر أيضا في حال تنفيذه إمكانية قيام ذاتية عصرية مدنية، وصناعة سياحية، وحالات استثمارية متعددة.. فوجود مدن صناعية تجارية، وأخرى سياحية وترفيهية وسكنية مستقبلا على جالي تلك القناة.. من شأنه -كما ذكرت- أن يحقق فائدة اقتصادية عظمى للقطاعين العام والخاص، وسيحدث نقلة دراماتيكية إيجابية عارمة في تاريخ المنطقة وفي جغرافيتها ومزاياها، وسيمكن المواطن والمقيم والزائر من الاستمتاع برؤية زرقة البحر في قلب الصحراء، ومن ممارسة الهوايات البحرية المختلفة، كما سيوفر للجميع فرصة التنقل والتنزه عبر جغرافية الوطن الساحرة، ومناخاته الغنية والمتباينة بإحساس مغاير، لا يشبه إلا الحلم.. الذي لا يصعب تحقيقه.
أما على صعيد المناخ والبيئة، فلن أسهب.. فيكفي أن نسأل أهل الاختصاص في هذا الجانب عن دور البحيرات المائية الكبرى وأثرها في تلطيف درجات الحرارة، وفي رفد الغيث، وفي خلق الحالات المطرية التي يمكنها أن تسهم -بإرادة الله- في مد الكساء الأخضر، وفي قدرة تلك البحيرات على التقليل من نسبة حالات التصحر المتصاعدة، وعلى الحد من تأثير الخطر البيئي الداهم المتمثل في زحف الرمال، وما قد يترتب عليه من إعاقة وتأخير لحركة التنمية العمرانية المستقبلية.
وهذا غيض من فيض. ما ذكرته ليس بالحلم.. هو أمر يمكن تحقيقه إذا ما توفرت النية الصادقة، والجهود المخلصة.. والعاجل من البر. فسور الصين العظيم، وأهرامات مصر، والسد العالي، وناطحات السحب.. وغيرها من المشاريع الإبداعية الخلاقة؛ لم تكن في الماضي سوى أحلام وخيالات، أوجدها الإنسان بعزيمته، وبطموحه الذي لا يفتر، وحقق من خلالها مفهوم الخلافة الحقة التي أوكلها الله إليه.. عملا وإحسانا وليس قولا وإيمانا فقط، وما الإنسان السعودي إلا أحد ورثة هذه الأرض الذلول.. من حقه أن يحلم، وأن يسعى لتحقيق أمانيه، ومن واجبه أن يسهم في رفعة وإعمار وطنه وأمته؛ وأن يتباهى بدينه، وبمليكه، وبمنجزات بلاده ما بين الشعوب والأمم.
ترى.. متى سنحتفي بتدشين قناة الملك سلمان البحرية؟!