منصور بن صالح العُمري
سلام على من سمع القول فاتبع أحسنه.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
يا صاحب القلب الغيور، يا من يسره أن يرى راية وطنه ترفرف آمنةً على سارية المجد، اعلم أن الأوطان تبنى أول ما تبنى من تماسك القلوب قبل تلاصق الحجارة، وأن اللحمة بين الراعي والرعية عقد من نور إن انفرطت حبته الأولى تتابع بعدها التفكك حبةً حبة، فيتبدد الصف وتذوي السكينة، ويعم ظلام الفوضى.
لقد أفاء الله علينا أعوام رخاء وأمن يغبطنا عليها من حولنا، فكان من تمام الشكر أن يلتف الناس حول ثوابتهم، وأن يدعوا أمور التدبير لمن أسندت إليهم الأمانة. غير أن رياح الفتن إذا هبت، هب معها المهوسون بنثر البلبلة: يعرضون شبهات لامعة المظهر، خاوية المخبر، يزينونها بزخرف القول غرورا ،حتى يحسب الجاهل أنها نصيحة مخلصة، وهي في الحقيقة سنان ينغرس في صدر الوطن، يغتال طمأنينته، ويهدر أمنه.
تراهم يتصدرون بلا أهلية، يستعذبون مخالفة الجماعة، ويزعمون أن الصدارة حق لمن أتقن الصراخ، مدعين دفاعهم عن «حقوق» زائفة لم تثبت ولم تصح، مجانبين لدواعي الضرورة التي لها أحكامها ويتوجب معها تأجيل ما تستلزم الأوضاع تأخيره. فإذا لانت لهم بعض القلوب، غرسوا بذرة التفرّق حزبًا هنا وطائفةً هناك، يرومون مسارًا يخاصم مسار الأمة، ويعارضون توجيهات أولي الشأن تصريحًا أو تلميحًا. وهنا يبلغ الخطر غايته؛ إذ تصبح الكلمة الناشزة شرارةً لنار تأكل أخضر الروابط ويابسها.
أما رأيت كيف أن الفتنة إذا شبت لم تبق ولم تذر؟ إنها تعمي البصائر عن أبسط الحقائق: أن من تجاوز حده ضيع حق غيره، وأن من نازع الأمر أهله أفسد النظام، وأن الشقاق يصدع جدار الأمن حتى يصير صدى الطمأنينة ذكريات باهتة. وما تصنع الأوطان بنبوغ العقول إذا تمزّقت القلوب، وبات الأنيق من الكلام جسرًا إلى هاوية سحيقة؟!
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد».
فيا بناة الغد، أطفئوا مجمر الفرقة قبل أن يلتهب، وارفعوا أيديكم جميعًا إلى الحبل الواحد؛ فهو أقوى عروةً، وأمتن سندًا، وأبقى للوطن. لا تجعلوا لمرجف في الديار صوتًا يكايد الحق، ولا تمهدوا لمدع أن يستلب صلاحيةً ليس لها إلا صاحبها. وليكن ميزانكم: مصلحة الجماعة قبل رغائب الأفراد، واليقين الذي جمعنا قبل الظنون التي تفرقنا.
هكذا نحفظ للوطن ستره، وللأجيال غدها، وللقلوب سكينةً لا تزعزعها أبواق عابث ولا غوغاء حاقد. وليصبح كل واحد فينا، حين يعرض له خاطر اللغو، كالحارس على باب بيته: لا يدخل إليه إلا كلمةً تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتزهر ولا تحرق.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا