د. رانيا القرعاوي
لم تتفاجأ إيران بالقدر الذي صُدم فيه المشاهدون باستهداف الغارات الإسرائيلية مبنى التلفزيون الإيراني الرسمي خلال بث مباشر، في مشهد يعكس تحوّل الإعلام من ناقلٍ للأحداث وناشرٍ للوعي والمعرفة إلى طرف فاعل في المعركة. هذا الحدث، الذي وثّقته كبرى وكالات الأنباء، يعيد إلى الواجهة النقاش حول دور الإعلام في الحروب، وحدود تغطيته، وموقعه بين ساحة الصراع وساحة المسؤولية.
التغطية الإعلامية في الصراعات الكبيرة تمثّل سلاحاً ذا حدّين؛ فإلى جانب تزويد الجمهور بالمعلومات، تلعب دوراً رئيساً في تشكيل الرأي العام. ولهذا، غالباً ما تُفرض رقابة صارمة على التغطية داخل إسرائيل نفسها، من خلال تعليمات مشددة من جهاز الرقابة العسكري، لما تأكد علناً عن ضربات إيران وردودها. وحماية الأسرار والاستراتيجيات العسكرية هي السبب الأساسي لهذه القيود الرسمية.
هذه الرقابة تؤثّر بشدة على تغطية الإعلام التقليدي والرسمي، مما يدفع بالمشاهدين لمتابعة التغطية المستقلة والخارجية، حيث شهدت إذاعتا VOA وRadio Farda الناطقتان بالفارسية زيادة ملحوظة في التفاعل، رغم تحديات الرقابة والضغط على أمن العاملين. وتسببت، بحسب وكالة الأسوشيتد برس، في ارتفاع حركة الزوار بنسبة 77 في المائة، مما يعكس مدى حاجة الجمهور إلى مصادر بديلة في ظل صعوبات الوصول إلى المعلومات داخل إيران.
على مرّ التاريخ، يُنظر للإعلام كأداة استراتيجية قادرة على التأثير في الرأي العام، بل حتى في قرارات صناع السياسة. لكن دوماً، ومنذ نكسة 67، نشهد تفوقاً للإعلام الغربي على العربي في نقل مشاهد الحروب. هذا العجز تعاني منه حتى القنوات الأجنبية بنسخها العربية، مثل بي بي سي عربي والفرنسية، حيث تعاني التغطية العربية من صعوبة الوصول الميداني. ففي الوقت الذي تتسابق فيه الوكالات الأجنبية لنقل التفاصيل وتحليل السياقات، تكتفي بعض القنوات العربية بتغطية سطحية أو بيانات رسمية، مما يُضعف التفاعل، ويُقلّص من فرص التأثير، بل يفتح المجال لمصادر خارجية لتشكيل الصورة بدلاً عنها.
في الوقت الذي رسّخ فيه الإعلام الغربي، وتحديدًا قنوات مثل CNN، مفهوم «الصحفي المدمج» (embedded journalist) الذي ينقل الحدث من داخل المشهد، مما منحه ميزة السبق والموثوقية، ورسّخ حضوره في ساحات النزاع بدءًا من حرب الخليج عام 1991، وصولًا إلى تغطيته الميدانية من داخل أوكرانيا وغزة. هذا النموذج، الذي يُمكّن الصحفي من مرافقة القوات العسكرية أو العمل من قلب مناطق النزاع، أتاح له نقل الصورة كما هي، قبل أن تعيد صياغتها الحكومات أو الأطراف المتنازعة.
تساهم الحروب والأزمات في ارتفاع نسب المشاهدة وتضاعف العائدات الإعلانية. فوفقًا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، ارتفع متوسط جمهور قناة CNN اليومي إلى 3.3 ملايين مشاهد خلال الأيام الأولى لحرب العراق، مما يعكس الأثر المباشر للتغطية الميدانية المكثفة على حجم المتابعة الإعلامية.
في المقابل، لا تزال القنوات العربية في معظمها تُدار بعقلية مركزية، تقتصر على البيانات وكلام مرسل للمعلقين، في غياب للمراسلين والتغطيات الميدانية. ومع منع الصحفيين من دخول مناطق الحدث، أو فرض رقابة على تقاريرهم، تصبح الرواية العربية باهتة، وتُستبدل سريعًا بروايات خارجية تتبناها المنصات الدولية.
ويزداد لجوء بعض الدول في أوقات الحروب إلى خيار «منع التغطية»، بذريعة الحفاظ على الأمن أو وحدة الرسالة. لكن هذا الخيار السهل يحمل في طياته ثمناً باهظاً، لأنه يسمح للأخبار غير الموثوقة بالانتشار بلا تحقق أو مسؤولية تحريرية. فحين تغيب القنوات الرسمية عن المشهد، يُعاد إنتاج الخبر بطريقة قد لا تخدم الحقيقة، ولا مصلحة الدولة، ولا وعي الجمهور.
يزخر التاريخ بأمثلة مشابهة. في الحرب العالمية الأولى، منعت بريطانيا الصحفيين من تغطية معركة السوم، فملأت الدعاية الألمانية الإعلام بصور مشوّهة للواقع. في حرب العراق 2003، مُنع الإعلام العربي من العمل الميداني، بينما رافق صحفيو CNN القوات الأمريكية، وقدموا رواية حصرية طبعت الوعي العالمي.
إن منع الإعلام يمنح الأفراد غير المحترفين المجال لاحتلال المشهد، فتصبح تغطية الحروب مشهداً عاطفياً غير دقيق، يُربك الفهم ولا يُنتج وعياً حقيقياً.
هذه الحرب فرصة نادرة لتقييم وتطوير الأداء الإعلامي العربي، وتأهيل مراسلين قادرين على العمل الميداني. فاستخدام أدوات التحقق والذكاء الاصطناعي لم يعد رفاهية، بل ضرورة لبناء رواية مهنية منافسة. فمن خلال تغطية احترافية، يمكن للإعلام العربي أن يعزّز حضوره، ويزيد من جمهوره، ويرفع من إيراداته، دون الحاجة للاعتماد على دعم رسمي أو إعلانات مشروطة.
في زمن الحرب، لا يفوز فقط من يملك السلاح، بل من يملك القصة. والسؤال الحقيقي: هل نحن مستعدون لنرويها بأنفسنا، أم سنبقى ننتظر ترجمتها؟