د.عبدالله بن موسى الطاير
التفاوض والوساطة آليات متاحة للدبلوماسية الوقائية، وهي تهدف لمنع اندلاع حرب أو نزاع مسلح أو عمليات عسكرية متبادلة بين دولتين ذات سيادة. إلا أن هذا النوع من الدبلوماسية قد لا يجدي، وبذلك تنجرف الدول المختلفة سياسيا نحو الحرب بأي شكل من أشكالها، وهنا يأتي نوع آخر من الدبلوماسية وهو التفاوض على السلام في وقت الحرب تحت قصف النيران، وهدير الطائرات، والمسيرات، والمدافع. هذا مسعىً سياسيا ذا مخاطر عالية، إذ يوازن بين أمل وقف الدمار وبين خطر الاستسلام لعدو أقوى. تتطلب هذه الدبلوماسية شجاعةً في مواجهة الخصوم، وواقعيةً لضمان بقاء النظام والأمة. لكن ليست النتيجة دائما هدنة، وإنما قد تكتب نتائج التفاوض وثيقة استسلام أحد الأطراف، حيث تُقوّض التنازلات تحت القوة العسكرية والتهديد بالمزيد منها السيادة أو تُشجّع الأقوى على التمادي في إذلال الطرف الآخر، مما يجعل نتائج التفاوض أثناء المعارك تتراوح بين السلام التحويلي الذي ينشئ واقعا جديدا في بنية النظام السياسي وأيديولوجيته، أو هدنات هشة أو استسلام تام.
بالعودة إلى السياقات التاريخية، ولنا فيها عبرة، شكلت المفاوضات أثناء الصراع مسار الإمبراطوريات، ويُجسّد صلح نيسياس عام 421 ق.م، الذي أبرم بين أثينا وإسبرطة خلال الحرب البيلوبونيسية، أحد تلك الشواهد. فقد وافقت الدولتان المُنهكتان على هدنة مدتها 50 عامًا لوقف الأعمال العدائية. تطلبت المفاوضات جرأة دبلوماسية، حيث التقى المبعوثون في ظل مناوشات مستمرة، مخاطرين بحياتهم لإحلال السلام. ومع ذلك، كانت الهدنة هشة؛ إذ أدى انعدام الثقة المتبادل وهيمنة إسبرطة المتوهمة إلى انهيارها في غضون سنوات. أجريت المفاوضات على الرغم من المخاطر، لكن نتائجها فشلت لأن الشروط صيغت في صالح أحد الطرفين أو لم تُنفذ.
وتُقدم هدنة عام 1918م التي أنهت الحرب العالمية الأولى منظورًا آخر، إذ وُقّعت وثيقتها بينما كان القتال محتدمًا، وكانت خطوةً براغماتيةً من جانب الحلفاء وألمانيا المنهكة لوقف الأعمال العدائية. عكست المفاوضات، التي أُجريت تحت ضغط شديد، الواقعية السياسية لألمانيا المهددة بهزيمةً حتمية، وسعي الحلفاء إلى تجنب المزيد من إراقة الدماء. ومع ذلك، فإن شروط الهدنة المجحفة -التي اعتبرها العديد من الألمان استسلامًا- بذرت بذور الاستياء، مما أسهم في اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939م. هذا مثال آخر أوقفت فيه نتيجة المفاوضات العنف الجاري، لكنها أسست لصراع مستقبلي، مما يؤكد على خطر الشروط التي تُذل طرفا بدلاً من تغليب المصالحة بما يضمن حقوق الطرفين. مفاوضات زمن الحرب ربما تُحقق السلام، ولكن على حساب تنازلات ضخمة ومصيرية. فعلى سبيل المثال أنهت اتفاقيات دايتون لعام 1995م التي جرى التفاوض عليها خلال حرب البوسنة، صراعًا وحشيًا من خلال دبلوماسية مكثفة وسط عنف مستمر. وكانت النتيجة سلامًا هشًا، قسّم البوسنة إلى جيوب عرقية. في الوقت الذي وضعت فيه تلك المفاوضات حدا لجرائم وحشية وإبادة جماعية، فإن التنازلات التي قدمتها لصالح الأطراف الإقليمية رسّخت الانقسامات، وبينت كيف يمكن لمفاوضات زمن الحرب أن تُحقق السلام، ولكن على حساب تنازلات ضخمة.
تعتمد نتائج هذا النوع من المفاوضات على ديناميكيات القوة، والنوايا، وشجاعة الدبلوماسية التي يمكن أن تُخفف التصعيد، كما حدث في دايتون، لكنها تتطلب التزامًا متبادلًا وعدالة وموضوعية في صياغة شروط الاتفاقية لتحقيق النجاح المأمول. على العكس من ذلك، فإن المحادثات غير المتوازنة، تُخاطر بعدم الاستقرار على المدى الطويل إذا فضّلت الطرف الأقوى أو تجاهلت المظالم الكامنة. اليوم، ومع احتدام الصراعات المسلحة، تواجه الدول المعضلة نفسها المتمثلة في الانخراط في محادثات لوقف الدمار أو المخاطرة بالاستسلام لشروط المعتدي.
التفاوض أثناء الحرب ليس بطوليًا ولا جبانًا بطبيعته - إنه مقامرة قد تكون محسوبة وقد تكون مفروضة، أما التفاوض لمنع الحرب فهو البطولة الحقيقية. إن نجاح الموازنة بين مصالح الأطراف المتحاربة وبين الاحتياجات الفورية المتمثلة في إنهاء الحرب والدمار والمحافظة على النظام والأمة والاستقرار على المدى الطويل، يضمن ألا تُؤجج تنازلات أي من الجانبين الصراعات مستقبلا. لكن الوصول إلى هذه النتيجة يتطلب اليقظة لتجنب استبدال شكل من أشكال الصراع بآخر. ربما قدم التاريخ مثالا باعثا على الأمل تمثل في استسلام كل من اليابان وألمانيا في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تمكنت أمريكا من ترميم الجروح العميقة بمبادرات مشروع مارشال، ووصلت كل من ألمانيا واليابان إلى ما هما عليه الآن.