طارق مصطفى القزق
يعد مفهوم النكوص من المفاهيم المستخدمة في علم النفس؛ وهو حيلة من الحيل النفسية اللاشعورية التي تصيب الإنسان بعد صدمة نفسية ما تعرَّض لها. وأفعال التصابي من أهم أعراضها مثل البكاء والعويل وزيادة الأنانية؛ ولكن النكوص الذي أصاب السياسة الأمريكية هو اللامعقولية في القرارات الدولية، والدبلوماسية القائمة على الإجبار، لا التفاوض، والواقعية السياسية الفجة.
تعد النظرية الواقعية من أشهر النظريات المفسرة لطبيعة العلاقات الدولية، التي تعتبر أن العلاقات بين الدول هي علاقات فوضوية متصارعة، وتبنى العلاقات بين الدول على أساس المصلحة الاقتصادية والقوة. وفي المقابل توجد المدرسة المثالية أو الليبرالية؛ التي تعتبر أن الحالة الطبيعية في الإنسان هي السلام وتحث على زيادة التعاون الاقتصادي بين الدول، وحل النزاعات عبر المنظمات الدولية والقانون الدولي، ويتجلى هذا فيما تقدمه منظمات المجتمع المدني ووكالات الإغاثة والتنمية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة من خدمات تهدف إلى تحسين الحياة الإنسانية، ومنع نشوب الصراع.
ومن هذا المنطلق ظهر مصطلح القوة الناعمة أو الدبلوماسية العامة، ويقصد به تحول الدول إلى فاعل دولي مؤثر في السياسة الدولية، مما يعزز من نفوذها وتأثيرها العالمي، لتحقيق أهدافها الخاصة ومصالحها وذلك عبر ما تقدمه من مساعدات تنموية واقتصادية وثقافية.
وعلى الرغم من إعلان وفاة دولة الرفاهية في نهاية القرن الماضي وترسيخ مفهوم «النيوليبرالية» إلا أن هذا لم يؤثر على تقديم المساعدات الإنسانية، ولاسيما المساعدات الأمريكية عبر «الوكالة للتنمية الدولية usaid»، التي بلغ مقدار ما تمتلكه هذه الوكالة حَوالَي 43 مليار دولار أمريكي.
وتعد الولايات المتحدة من أكبر المنفقين على الصعيد العالمي، فمن خلال التقارير الدولية تبين أن الولايات المتحدة الأمريكية أنفقت خلال عشر سنوات حوالي 1 % من ميزانية البلاد على المساعدات الإغاثية التي تقدمها للدول التي تواجه كوارث طبيعية، كالزلازل والحروب؛ وفي مقابل هذا الإنفاق الضخم، تحصل الولايات المتحدة على نفوذ ثقافي، وسياسي، واقتصادي بما فيه الامتياز العسكري من كل بلد تتسلم هذه المساعدات، - ورغم هذا لا يمكن تغافل دور الأمم المتحدة عبر «وكالة الأمم المتحدة للاجئين»، بتقديم ما يقارب 800 مليار دولار أمريكي عام 2020 لأكثر من 52 دولة لمواجهة جائحة كورونا -. وبناء عليه فإن حصول الولايات المتحدة الأمريكية على الموارد الطبيعية أو بعض الامتيازات الدولية لا بسبب القوة العسكرية وحدها؛ ولكن أيضاً بسبب ما تقدمه من معونات اقتصادية وعسكرية وتنموية للدول.
ونحن البشر لا نستطيع أن نعيش في هذا العالم منعزلين ومنغلقين على أنفسنا، ففي عصر العولمة الذي نعيش فيه، كل شيء حولنا من سلع وأدوات ومنتجات ليست من صنع دولة أو فرد، بل هو صناعة عالمية. الجميع يشارك، ويتنافس لتحقيق أفضل جودة من المنتجات.
من السمات الإيجابية في عصر العولمة هو سرعة المواصلات والاتصالات وسهولة انتقال المعلومات؛ ولكن من السمات السلبية هو انتقال الأزمات والكوارث من المحلية إلى الكونية، بل أصبحت الكوارث تؤثر وظيفياً في كافة النظم السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية والدولية، على سبيل المثال لا الحصر جائحة كورونا، تسببت في كوارث إنسانية أثرت في النظام الاقتصادي الدولي وتسببت في خسائر مالية عالمية مما أدى إلى انهيار النظام الصحي لدى كثير من الدول؛ بالإضافة إلى هذا تأثير الجائحة في النظام السياسي والتشريعي والأمني وتجلى هذا في حظر السفر، وبلغ حد تخطيط بريطانياً حربا ضد هولندا بسبب اللقاحات. وغيرت الجائحة من مفهومي الثقافة الصحية والاجتماعية في دول العالم.
ولعبت الحروب أيضاً دوراً مؤثراً في السياسة الدولية على سبيل المثال: أدت حربا أوكرانيا وسوريا إلى حركة نزوح دولية ، وكان لهذا عواقبه على حركة الأسواق والاقتصاد الدولي من ناحية والنظم القانونية والتشريعية من ناحية أخرى، وتجلى هذا في أزمة الهجرة غير الشرعية الممتدة من الجنوب والشرق إلى أوروبا عبر تركيا والبحر المتوسط.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي تحول العالم من ثنائي القطب إلى أحادي القطب متمثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبحت أمريكا من خلال أدواتها الدبلوماسية الذكية، ولاسيما الناعمة منها الأكثر جاذبية ولمعاناً بين الدول والشعوب؛ ويعد انتخاب الرئيس ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2017 نقطة تحول في التاريخ الأمريكي، ومنذ ذلك التاريخ اتجهت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية من العولمة إلى النكوص، وعرفت سياسية ترامب الشعبوية بـ»أمريكا أولاً»، وانكفأت السياسة الأمريكية نحو الداخل، ومن الناحية الاقتصادية كانت سياسة زيادة التعريفات الجمركية واستعمال دبلوماسية العقوبات الاقتصادية على السلع والخدمات، بمثابة القطيعة الفكرية الكاملة في المبادئ «النيو ليبرالية» التي تحث على إزالة التعريفات الجمركية، وحرية التجارة والتنافس.
وجمعت شخصية ترامب بين الشعبوية الأمريكية من الناحية الأيديولوجيا السياسية، والرجل التاجر المفاوض - ماذا سيقدم لكي يحصل؟! - من الناحية الدبلوماسية التنفيذية. واعتمد خطاب ترامب على فعل الأمر لا الاستفهام وهذا يجعلنا نتجه نحو المزيد من الأزمات الدولية، والتي قد تفرض علينا، وتجلى هذا في خطابات ترامب «عليهم أن يفعلوا» - وإن كانت لا تختلف كثيراً عن خطابات سابقيه «يجب أن يرحل» -، واتسم خطابه أيضاً بعقلية التاجر «لقد فعلنا لهم الكثير»، وتحولت سياسة نشر الديمقراطية إلى سياسية الصفقة make deal) (- المساعدات الأمريكية لأوكرانيا مقابل 50 % من ثروات أوكرانيا -، وكان الانسحاب من اتفاقية المناخ الدولية، وإيقاف وكالة التنمية الأمريكية من مظاهر السياسة الأمريكية الجديدة.
اعتبر البعض النكوص الأمريكي فرصة للصين لبسط قوتها الناعمة على المستوى الدولي، وهذا ما بدا واضحاً منذ تنفيذ استراتيجية «الحزام والطريق»، وتقديمها للمساعدات التنموية والقروض غير المشروطة للدول الإفريقية ، فضلاً عن ظهورها لاعباً دولياً مؤثراً في حربي الهند وباكستان الأخيرة. وأما وجهة نظر الديمقراطيين الأمريكيين، المعارضون لسياسة ترامب بأنها تبتعد عن الأيديولوجيا الليبرالية والأسس التي أقيمت عليها الدولة الأمريكية، وتجلى ذلك في صراع ترامب مع الكابيتول، والمهاجرين غير الشرعيين القادمين إلى أمريكا، وهذا الصراع يعبر عن ثورة ناعمة داخلية في قلب جهاز الدولة الأمريكي، وإن كنا نظن أن القطيعة الفكرية الأمريكية بدأت بشكل عملي منذ حربي أفغانستان والعراق.
وفي الختام هناك رؤيتان لتفسير السياسة الدولية الحالية، الأولى: وهي التشاؤمية: لأن مع تفاقم الأزمات والمخاطر ستنهار الدول دون تقديم المساعدة لها، ولهذا علينا الفصل بين ما هو إنساني وبين ما هو سياسي وماهو ضرورة اقتصادية عالمية، بالإضافة إلى هذا دفع الدول نحو الهاوية مثل: الحرب الأوكرانية - الروسية وفلسطين وسوريا، ثم التنصل منها بسبب عدم الوصول إلى الأهداف الاقتصادية الحقيقية وراء هذه الحروب وهو أساس الصراعات الدولية.
الرؤية الثانية التفاؤلية: هي انتشار المعلومات يؤدي إلى ظهور لاعبين دوليين؛ مما يعيد تشكيل السياسة الدولية طبقاً للتوازنات جديدة، بالإضافة إلى هذا زيادة الوعي الدولي بالقضايا الإنسانية الدولية والتهديدات البيئية. ومع زيادة الأزمات تزداد أهمية وفاعلية المنظمات الإنسانية من غير دول في وقت الأزمات والحروب، رغم ضعف تأثيرها القانوني والسياسي للضغط على الدول، مثلما نراه واقعاً في فلسطين وغيرها من الدول.