د.عبدالرحيم محمود جاموس
بينما يتأرجح الميدان في قطاع غزة على شفير الكارثة الإنسانية الشاملة، تظهر بعض الأصوات التي تروّج لانتصار سياسي قادم، ولقدرة المقاومة على فرض شروطها الكاملة في لحظة ما توصف بأنها «أضعف لحظات نتنياهو وترامب التاريخية».
غير أن الواقع، بكل قسوته وتعقيداته، لا يُجامل الأماني، ولا يمنح الانتصار لمجرد امتلاك الثقة بالنفس أو إطلاق الشعارات.
وهنا نقدم قراءة تحليلية لمآلات هذا الخطاب، وخطورته على القرار الفلسطيني، ومستقبل القضية الوطنية.
من المغالطات الشائعة تصوير المأزق السياسي الذي تعيشه حكومة نتنياهو، وما يشهده الداخل الإسرائيلي من احتجاجات وانقسامات، كعلامة ضعف استراتيجي لصالح المقاومة.
والحقيقة أن هذا المأزق - وإن كان حقيقيًا - لم ينعكس على الأداء العسكري أو على منسوب الجرائم التي تنفذها قوات الاحتلال في غزة، بل ربما زاد من عنفها كسبيل للهروب من المأزق ذاته.
أما الحديث عن تراجع النفوذ الأمريكي أو «ضعف موقف ترامب»، فهو تجاهل لحقيقة أن واشنطن لم تتراجع، حتى الآن، عن دعمها المطلق لإسرائيل سياسيًا وعسكريًا، بل ما زالت تقود المفاوضات من بوابة «ضمان أمن إسرائيل أولًا»، لا وقف العدوان.
ولا يمكن لأي خطاب سياسي أن يكتسب شرعيته في لحظة حرب إلا إذا انطلق من أولوية الحفاظ على حياة المدنيين.
وتحويل المجازر والتجويع إلى أوراق تفاوض تحت عنوان «عض الأصابع»، كما ورد في بعض المقالات، ليس فقط سقوطًا أخلاقيًا، بل أيضًا استهتارًا بتضحيات الناس ومعاناتهم اليومية.
المقاومة ليست أداة لتعزيز خطاب المكابرة، بل وسيلة للدفاع عن الشعب.
وإذا تحوّلت إلى عبء عليه أو ذريعة لإطالة أمد الكارثة، فإنها تكون قد أُفرغت من معناها الحقيقي.
والادعاء بأن «عدم القبول السريع بمبادرة ويتكوف» يمثل موقفًا صحيحًا، يتجاهل أن المقاومة - في وضعها الحالي - تحتاج إلى حلول مرحلية تحفظ ماء وجهها، وتمنع وقوع مزيد من الضحايا، وتكسر الحصار السياسي.
لا أحد يطلب التنازل عن الحقوق، ولكن الذكاء السياسي هو في تعديل المبادرات، لا إسقاطها بالكامل دون بدائل واضحة أو دعم دولي مضمون.
رفض الحلول الجزئية دون تقديم مشروع سياسي واقعي بديل، هو مقامرة، لا مقاومة.
صحيح أن التحولات في الرأي العام العالمي تصب في مصلحة القضية الفلسطينية، وأن هناك تراجعًا في دعم إسرائيل في كثير من المنصات الدولية، لكن هذه التحولات - كما تُثبت التجربة - تحتاج إلى أدوات ضغط قانونية ودبلوماسية حقيقية حتى تُترجم إلى قرارات دولية ملزمة.
المبالغة في التعويل على الرأي العام وحده، وكأنه قادر على تغيير الميدان أو فرض اتفاقيات، هي قراءة سطحية للعلاقات الدولية.
لذلك نحتاج خطابًا وطنيًا واقعيًا، لا شعارات جوفاء..
المطلوب الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو خطاب سياسي عقلاني، إنساني، وواقعي.
خطاب يحفظ كرامة المقاومة من جهة، ويُنقذ أرواح المدنيين من جهة أخرى.
خطاب يتعامل مع موازين القوى، لا مع وهم الانتصارات. خطاب لا يخجل من المفاوضات، ولا يزايد على حياة الناس.
غزة لا تحتاج إلى من «يعض أصابعه» في البيانات، بل إلى من يمدّ لها يدًا سياسية توقف المجزرة، وتحفظ الكرامة، وتُبقي على جذوة النضال حيةً في الأرض والوجدان.