د.شامان حامد
في ظل التحولات التقنية المتسارعة، يُطرح تساؤل مهم: هل يمثل انتشار السوشيال ميديا والتكنولوجيا الحديثة تقدمًا حقيقيًا، أم أنه في بعض السياقات يعزز ما يُعرف بـ»تحديث التخلف»؟ العالم العربي يعيش حالة من القفزات التقنية غير المدروسة، حيث تُدخل المجتمعات تقنيات متقدمة دون استيعاب لمراحلها السابقة، مما يخلق فجوة معرفية تعيق تطور الإعلام والثقافة بشكل مستدام.. فبين التحولات التقنية والانحسار المعرفي نرى حجم سوق الذكاء الاصطناعي اليوم يقدر بحوالي 20.64 مليار دولار ومن المتوقع أن ينمو بنسبة 13.53 % سنويًا، ومع ذلك، فإن هذا النمو لا ينعكس دائمًا في خلق بيئة معرفية متماسكة في العالم العربي. التكنولوجيا هنا تدخل بسرعة، لكن بدون أساسات تعليمية وثقافية قوية تدعم استخدامها الصحيح، مما يؤدي إلى استهلاكها دون توظيفها كعامل للنهوض الفكري والاقتصادي.
إن أكثر من 35 % من الشركات العالمية تستخدم الذكاء الاصطناعي بالفعل، بينما 42 % أخرى تستكشف إمكانيات تطبيقه مستقبلًا، ومع ذلك، لا تزال المؤسسات الإعلامية في العالم العربي تواجه تحديات في توظيف الذكاء الاصطناعي لتحسين جودة المحتوى والتحقق من المعلومات.
هذا التأخر يساهم في ترسيخ «ما بعد الحقيقة»، حيث يتم تجاهل الدقة والمصداقية لصالح المحتوى الأكثر إثارة للعواطف. فعبر التاريخ، تطور الإعلام العربي من النقل الشفوي، حيث كان الشعر والمرويات الشعبية تلعب دورًا في بناء الوعي، إلى الطباعة والإذاعة ثم التلفزيون. كل مرحلة شكلت تحولًا جديدًا، لكن ظل غياب الثقافة النقدية يمثل عائقًا أمام الاستفادة المثلى من هذه الوسائل.
مع دخول الإنترنت والسوشيال ميديا، بلغ التأثير الإعلامي مرحلة جديدة من الانفتاح، لكنه اصطدم بغياب معايير التحرير الصارمة، مما جعل المعلومات غير الدقيقة والشائعات أكثر انتشارًا. في ظل هذه التغيرات، ظهرت أزمة «ما بعد الحقيقة»، حيث أصبحت العواطف والانطباعات الشخصية تُحدد الرأي العام أكثر من الحقائق الموضوعية.
التأثير التكنولوجي لا يقتصر على الإعلام فقط؛ فقد غيرت الأدوات الرقمية أيضًا مشهد الاقتصاد العالمي، من المتوقع أن يتم إلغاء 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025 بسبب الأتمتة، لكن في المقابل، سيخلق الذكاء الاصطناعي 97 مليون وظيفة جديدة، هذا التحول يبرز الحاجة إلى تطوير المهارات الرقمية في العالم العربي لضمان الاستفادة من الفرص الجديدة بدلاً من التراجع أمام المتغيرات التقنية.
إلى جانب ذلك، تشكل الثقافة أحد المحاور الأساسية لرؤية المملكة العربية السعودية، والتي تعتمد على تعزيز الهوية عبر ثلاثة ركائز رئيسية: مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، ووطن طموح. تمثل هذه الركائز إطارًا لدمج الثقافة والتراث في التنمية الاقتصادية، حيث يتم استثمار الموروث الثقافي في دعم السياحة والإبداع، مما يساهم في إعادة دورة المال وتعزيز الهوية الوطنية؛ حيثُ يبرز الإعلام كعامل رئيسي في إبراز الهوية الثقافية وصياغة المستقبل المعرفي للمجتمعات. لكن هل يواكب الإعلام العربي هذه التحولات؟ اليوم، يتم تشغيل أكثر من 10 ملايين مساعد صوتي بالذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة وحدها، ومع تزايد انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي عالميًا، يصبح من الضروري أن تواكب المؤسسات الإعلامية العربية هذه القفزة التقنية لتقديم محتوى أكثر دقة ومصداقية.
لكن التحدي الأكبر يكمن في التأثير المتزايد للخوارزميات، التي تدفع نحو المحتوى الأكثر إثارة بدلاً من المحتوى الأكثر دقة. تشير الإحصاءات إلى أن 72 % من الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي ترى أنه يساعد في تحسين الإنتاجية، لكن في الإعلام، يظل التركيز الأكبر على الانتشار السريع بدلاً من الموثوقية. في العالم العربي، أدى هذا الاتجاه إلى خلق بيئة تضعف فيها مهارات التحقق، حيث أصبحت الشائعة تنتشر أسرع من الحقيقة، مما يرسّخ أزمة المعلومات المغلوطة.
العالم العربي اليوم يقف عند مفترق طرق، حيث يمكن للتكنولوجيا أن تكون محركًا للتقدم، لكن فقط إذا تم استخدامها بشكل صحيح. في ظل تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، يجب أن يتم تعزيز الثقافة النقدية والمؤسسات الإعلامية القادرة على تقديم محتوى ذو قيمة حقيقية. فالعبرة ليست بامتلاك الوسائل الحديثة، بل في كيفية توظيفها لصالح مجتمع أكثر وعيًا ومعرفة، بعيدًا عن «تحديث التخلف»، وباتجاه بناء هوية ثقافية متينة تواكب العصر الرقمي بمبادئ راسخة.