إيمان حمود الشمري
منذ أن وصلت الصين وأنا أخطط لهذه الزيارة، ليس حرصاً مني، فأنا أحمل هم السفر والتنقّل الكثير مع هذا البرنامج الضاغط بالعمل، ولكن لوعد قطعته على نفسي بزيارة صديقتي الصينية في مدينتها التي تبعد عن بكين ساعتين ونصف بالقطار، وبين جدول مزدحم بالزيارات، وأمام إلحاحها، استطعت أن أنفذ لبضعة أيام وصلتها بعطلة نهاية الأسبوع لأسدد هذا الدين الذي وعدت به، فالكلمة أيضاً رباط وثيق يعكس ثقافتك ودينك وأخلاقياتك.
أربعة أيام قضيتها في ضيافتها، غمرتني بكرم يشبه ثقافتنا العربية في إكرام الضيف، لم تقبل أن أدفع أي شيء حتى القهوة التي أشتهيها صباحاً كنا نتشاجر على دفع ثمنها! سخاء صيني يعكس ثقافة شعب جُبل على إكرام الضيف.
في مدينة جينتشجو (Zhèngzhou)عاصمة مقاطعة خنان (Hénan) تلك المقاطعة القابعة في وسط الصين، وتُعد واحدة من أكبر المدن وأكثرها أهمية في المنطقة، حتى أُطلق عليها لقب «قلب الصين» بسبب موقعها الجغرافي الإستراتيجي، هناك التقينا لأكتشف ليس المدينة فحسب وإنما اكتشفها هي نفسها.
من مواليد الثمانينات، توفي زوجها وترك لها ابنتين وشركة كانت تعتقد أنها المعيل لهم، ولكن المفاجأة كانت أن الشركة مديونة بمئة مليون يوان صيني أي ما يعادل خمسين مليون ريال سعودي! وأمام مطالبات الورثة من أسرة زوجها قُسمت الحصص لتبقى بين نصف شركة خاسرة غارقة بالديون، وابنتين لا معيل لهما سواها.
من هنا كانت نقطة التحول لتلك الأرملة الشابة، فبالأزمات تولد النفحات، ونكتشف جانباً آخر من أنفسنا لا نعرفه، عملت على إنقاذ ما تبقى لها حتى نهضت الشركة وسدَّدت ديون زوجها، ثم انطلقت بتأسيس شركة تلو الأخرى بعد كل نجاح تحصده، إلى أن وصلت حصيلة شركاتها لـ14 شركة و3 مصانع، واستطاعت توظيف حتى أفراد عائلة زوجها الذين كانوا يوماً ما يطالبون بالإرث! وتربعت على إمبراطورية الشركات، تديرها بحنكة وهدوء لافت، حيث لا يبدو عليها أي مظاهر توتر وعصبية أو حتى غرور بهذا النجاح الساحق، أدهشتني بساطتها، إذ لم أجد أي مظاهر ثراء باذخ أو استعراض، ولم تكن ترتدي حتى خاتماً بيدها! في حين أنني أرى مظاهر الاستعراض المثير للغثيان الذي يصلنا عبر وسائل التواصل لسفهاء يملكون المال، لذا لم ولن يكون المال وحده يغريني بالأشخاص الذين التقيتهم، ولا حتى تواضعهم المزيَّف الذي لا يدل على مظهرهم واهتماماتهم، لأن الذي استوقفني فيها تواضعها، رغم ذكائها النافذ الذي يميز قومية (خوي) المسلمة بالصين، فتواضع العلم أشد جاذبية بالنسبة لي.
تلك السيدة التي كان أحد مشاريعها تحويل الركام والنفايات لمواد بناء بإعادة تدويرها واستخدامها مرة أخرى لبناء جديد، حيث جسدت بتلك الفكرة مفهوم المثل الشائع كيف تمسك التراب بيدك وتحوله ذهباً! وجعلته من مشكلة بيئية إلى فرصة استثمارية تواكب توجه البلد ... حتى فكرة مشروعها تشبه قصتها في تحويل مسار المشكلة لنقطة التغيير والانطلاق، وكأنها اعتادت أن تلملم النفايات والجراح ونقاط الضعف وتصنع منها قصص نجاح.
لأكثر من مرة أشرد بخيالي بعيداً وأنا معها دون أن تعلم أنها بطلة شرودي! ألمحها بطرف عيني وهي ترد على كل رسالة أولاً بأول لتراقب سير العمل، ثم ترفع رأسها لتبتسم لي. كانت أنيقة بهدوء، متوهجة دون بذخ، تشع حيوية بابتسامتها التي لا تغيب رغم ضغط العمل، كانت ملهمتي دون أن تشعر، كنت أقرأها لأكتبها لأنها تستحق أن يفرد لها مقالاً، وتستحقون أن أشارككم قصتها، علها تلهم أحدكم للنهوض من جديد. فلا تعلمون أي قدر ينتظركم. فإحدى شركاتها الآن تعمل مع مشروع الدرعية.