د. سفران بن سفر المقاطي
في ظل التطور المتسارع في تداول المعلومات، وتشابك وسائل التأثير وتعقيدها، يشهد المشهد الإعلامي تحولات جوهرية تتجاوز المفهوم التقليدي لنقل الأخبار. ومن أبرز هذه التحولات بروز ما يُعرف بـ «الإعلام الغامض»، الذي يعتمد على الغموض والتلميح كأدوات استراتيجية لتوجيه الرأي العام والتأثير في السلوك الجمعي.
ولا يقتصر هذا النمط من الإعلام على إخفاء المعلومات أو الغموض العابر، بل يتكئ على استراتيجيات دقيقة تشمل التسريبات الجزئية، والعناوين المثيرة للجدل، والرسائل المشفرة التي تُجبر المتلقي على بذل جهد ذهني لتفسير المحتوى. وتكمن الغاية الأساسية من هذا الأسلوب في إثارة الفضول وتحفيز التفاعل، ما يُمكّن الجهات الإعلامية من التحكم في سرد الروايات وتوجيهها بما يخدم أهدافاً محددة.
يعتمد الإعلام الغامض بدرجة كبيرة على ما يُعرف في علم النفس بـ»الفجوة المعرفية»، وهي الحاجة الفطرية لدى الإنسان لملء الفراغات المعرفية.
فعندما تُقدَّم المعلومات بشكل غامض، يتزايد دافع الأفراد للبحث والاستقصاء، ما يؤدي إلى مضاعفة استهلاك المحتوى وارتفاع مستويات المشاركة وتكمن خطورة هذا النوع من الإعلام بصورة واضحة في المجال السياسي، حيث يُستخدم بطرق مدروسة لتحقيق أهداف دعائية أو استراتيجية. فالتسريبات الجزئية، على سبيل المثال، كثيراً ما تُوظف في توقيتات حساسة لاختبار ردود فعل الرأي العام أو لصرف الانتباه عن قضايا أكثر أهمية. كما أن استخدام عناوين مثيرة لا تعكس بالضرورة مضمون النص، ينتج عنه انطباعات أولية مضللة، تُسهم في تآكل ثقة الجمهور بوسائل الإعلام.
وفي الفضاء الرقمي، تزداد حدة هذه الظاهرة مع انتشار التغريدات والتصريحات المقتضبة والغامضة عبر منصات التواصل الاجتماعي، ما يفتح المجال واسعاً أمام التكهنات والتحليلات، ويؤدي إلى تشويش النقاش السياسي العام. ويستغل الإعلام الغامض مجموعة من الآليات النفسية والمعرفية، من أبرزها «التحيز التأكيدي»، حيث يميل الأفراد إلى تأويل المعلومات الغامضة بما يتماشى مع معتقداتهم السابقة، ما يعزز الانقسام المجتمعي، ويُضعف إمكانات الفهم الموضوعي. كما تُستحضر المشاعر السلبية كأداة تحفيزية، إذ يؤدي الغموض حول تهديدات محتملة إلى ردود فعل مبالغ فيها، قد تضر بالصحة النفسية والاستقرار الاجتماعي. ولا تقتصر تأثيرات الإعلام الغامض على مستوى الأفراد، بل تمتد لتطال صناعة القرار على مختلف الأصعدة.
ففي المجال السياسي، قد يجد صانعو القرار أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ خطوات مبنية على معلومات غير مكتملة أو مضللة، ما يؤدي إلى سياسات مرتجلة تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية. وفي المجال الاقتصادي، تُعد الأسواق المالية من أكثر المناطق هشاشة تجاه هذا الأسلوب الإعلامي، حيث يمكن لتلميحات مبهمة حول قضايا اقتصادية أو صراعات تجارية أن تتسبب في تقلبات حادة، تؤثر على ثقة المستثمرين وتدفعهم إلى اتخاذ قرارات خاطئة تنعكس سلباً على الاستقرار المالي.
وتتجلى خطورة الإعلام الغامض على المستوى الدولي من خلال عدد من النماذج المعاصرة؛ ففي الولايات المتحدة الأمريكية، ظهرت هذه الظاهرة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث استُخدمت مصطلحات مثل «التدخل الأجنبي» في الانتخابات دون تقديم أدلة واضحة أو معلومات موثوقة، ما أثار حالة من الجدل والانقسام داخل المجتمع. وفي أوروبا، استُخدم الإعلام الغامض في سياق مناقشة قضايا الهجرة واللجوء، إذ تم تداول مصطلحات فضفاضة مثل «أزمة الهجرة»، دون إسنادها إلى بيانات دقيقة، ما غذّى المخاوف، وأجج المشاعر السلبية تجاه المهاجرين، وأسهم في التأثير على السياسات العامة والتماسك الاجتماعي.
أما في منطقة الشرق الأوسط، فقد برز الإعلام الغامض خلال تغطية الأحداث السياسية المتسارعة، من خلال استخدام تعبيرات مبهمة مثل «مؤامرة خارجية» أو «جهات غير معلومة»، دون تقديم أدلة موثقة، ما أدى إلى تكوين حالة من الارتباك والانقسام داخل المجتمعات. ويتفاقم هذا الأسلوب الإعلامي خلال الأزمات الكبرى، كالنزاعات في فلسطين وسوريا واليمن والعراق، حيث تُروَّج معلومات غير دقيقة وتُبرز جهات غير معرفة كمسؤولة عن الأزمات، ما يزيد من التوترات ويؤدي إلى استقطاب حاد في الرأي العام. ففي لبنان، على سبيل المثال، تتكرر ظاهرة استخدام مصطلحات غامضة في الخطاب الإعلامي خلال الأزمات السياسية أو الأمنية، مثل «أطراف خارجية» أو «جهات تسعى لزعزعة الاستقرار»، دون تقديم معلومات موثقة أو تسمية واضحة للجهات المعنية. هذا النوع من الخطاب يترك المجال مفتوحاً أمام التأويلات، ويُغذّي الانقسام الطائفي والسياسي. وفي العراق، كثيراً ما تُستخدم عبارات مثل «أجندات مشبوهة» أو «تدخلات إقليمية» في تغطية الأحداث السياسية أو الأمنية، لا سيما خلال فترات الاحتجاجات الشعبية أو تشكيل الحكومات، هذه التوصيفات الغامضة تُربك الرأي العام، وتؤثر في الثقة بالمؤسسات، كما تُستثمر أحياناً لتوجيه الاتهامات بشكل غير مباشر، دون مسؤولية مهنية واضحة. أما في مصر، فقد شهدت بعض وسائل الإعلام خلال فترات التوتر السياسي استخدام تعبيرات مثل «خلايا نائمة» أو «مخططات لإثارة الفوضى»، دون تقديم توثيق أو تفصيل حول طبيعة هذه التهديدات أو الجهات التي تقف خلفها. ويؤدي هذا النوع من الخطاب إلى تأجيج المخاوف، ويُستخدم أحياناً لتبرير إجراءات أمنية أو سياسية مثيرة للجدل.
وفي القارة الآسيوية، بدا تأثير الإعلام الغامض جلياً في تغطية النزاعات الإقليمية، كما في حالة بحر الصين الجنوبي، حيث استخدمت بعض الوسائل الإعلامية تعابير غامضة مثل «تهديدات محتملة» و«مواجهات وشيكة»، ما أثار القلق في أوساط الدول المجاورة. وقد أدى ذلك إلى تصعيد دبلوماسي، ودفع بعض الحكومات إلى اتخاذ إجراءات دفاعية مثل تسليح الجزر المتنازع عليها أو إجراء مناورات عسكرية. كما أدى الإعلام الغامض دوراً محورياً في تغطية التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، من خلال الترويج لمفاهيم مثل «الحروب الاقتصادية الخفية» و«الاستراتيجيات الغامضة»، ما ساهم في تعقيد المشهد الاقتصادي العالمي.
وفي إفريقيا، كانت الانتخابات الرئاسية في دول مثل كينيا ونيجيريا ميداناً خصباً لممارسات الإعلام الغامض، حيث تم تداول تقارير تشير إلى عمليات تزوير أو تدخل خارجي دون إعطاء أدلة موثوقة. وقد أدت تلك الأساليب إلى تفاقم التوتر بين الأحزاب السياسية، وتعميق الانقسامات الاجتماعية، وزعزعة الثقة في المؤسسات الانتخابية. ففي كينيا، على سبيل المثال، أثارت التكهنات الغامضة حول تدخلات في العملية الانتخابية موجة من الاحتجاجات وأعمال العنف. وفي نيجيريا، ساهمت المصطلحات الغامضة حول «الاختراقات الأمنية» و»التهديدات السياسية» في إثارة القلق العام، وأثرت في بعض الحالات على استقرار البلاد. كما تُستخدم هذه الاستراتيجيات في تغطية الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، حيث تُقدَّم مشكلات مثل نقص الموارد أو البطالة ضمن إطار غامض يثير المخاوف، ويحفّز تحركات شعبية غير محسوبة، تُستغل في أحيان كثيرة لخدمة أجندات سياسية أو اقتصادية.
ولا يغيب أيضا تأثير الإعلام الغامض على قضايا المناخ، حيث تلجأ بعض الوسائل الإعلامية إلى استخدام عبارات مثل «تغيرات مناخية غير متوقعة» أو «أزمات بيئية غامضة»، دون تقديم بيانات علمية دقيقة. هذا التناول يُسهم في إثارة القلق العام، ويدفع الحكومات إلى اتخاذ قرارات متسرعة كفرض قوانين بيئية صارمة أو الاستثمار في تقنيات غير مدروسة، ما قد يُفضي إلى آثار سلبية على الاقتصاد المحلي والعالمي. وتُظهر هذه الأمثلة أن الإعلام الغامض ليس ظاهرة محصورة بجغرافيا أو ثقافة معينة، بل هو نمط عالمي في الخطاب الإعلامي، يوظَّف كأداة استراتيجية من قبل وسائل الإعلام والجهات السياسية لتحقيق أهداف محددة. ومن هنا تبرز الحاجة الماسة إلى تطوير الوعي النقدي لدى الجمهور، وتعزيز المسؤولية المهنية لدى الإعلاميين، للحد من الأثر السلبي لهذه الظاهرة.
وفي الختام، تواجه المجتمعات الحديثة تحدياً حقيقياً يتمثل في كيفية التعامل مع ظاهرة الإعلام الغامض، التي تبدو في ظاهرها وسيلة لزيادة التفاعل والمشاهدة، لكنها في جوهرها تُهدد الديمقراطية وتُضعف التماسك الاجتماعي. فالتلاعب المنهجي بالمعلومة واستغلال الغموض يُقوضان الثقة العامة، ويعوقان قدرة المجتمع على صنع قرارات مستنيرة.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف دور الإعلام، ليعود إلى وظيفته الأساسية كمصدر موثوق للمعلومة، وحارس للمصلحة العامة. ويتطلب ذلك التزاماً جماعياً يبدأ من المؤسسات الإعلامية، التي يجب أن تُقدّم المصلحة العامة على الأرباح السريعة، ويمتد إلى الإعلاميين الذين يتحتم عليهم الالتزام بأعلى المعايير المهنية، ويصل إلى الجمهور الذي عليه تنمية قدراته النقدية والتزامه بالتحقق من المعلومات. ومن خلال هذا الجهد المشترك، يمكن التصدي لتحديات الإعلام الغامض، وبناء إعلام مسؤول يُسهم في استقرار المجتمعات وتعزيز وعيها.