عبدالوهاب الفايز
وتبقى منطقة الشرق الأوسط مسرحًا ساخنًا مفتوحًا لتحولات سياسية وأمنية معقدة، منطقة تتفوق فيها مخازن السلاح والعتاد على مخازن القمح والغذاء ومنشآت الجامعات المعاهد والمصانع!
ومن أبرز مشاهد هذا المسرح تشابك الصراعات الداخلية مع التدخلات الخارجية المستمرة. وهذا المرض المزمن هو الذي يوجد البيئة الخصبة للتحديات التي تهدد استقرار الدول وسيادتها.
في هذا السياق المضطرب، يتوسع النقاش وتبرز المخاوف حول خطورة اختراق الأجهزة الأمنية، والعسكرية، أو الاقتصادية من قِبل أطراف خارجية. في الصراعات الممتدة يصبح هذا أكثر احتمالًا حين تكون الجبهات الداخلية للدول ضعيفة. هذا الضعف لا يقتصر على الانقسامات السياسية، بل يمتد إلى الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، مما يجعل الدول تكون أهدافًا سهلة للتجسس والتأثير الخارجي.
لذا قوة الجبهة الداخلية هي العمود الفقري والركيزة الأساسية للأمن الوطني، فهي نتاج عقد ونسيج اجتماعيين يعكسان مستوى الثقة بين الحكومة وشعبها، ويتجاوز دورها البنية السياسية أو الاقتصادية. عندما تكون الجبهة الداخلية متماسكة، تصبح الدولة أقل عرضة للاختراقات الخارجية، سواء كانت سيبرانية، أو اقتصادية، أو عسكرية. كذلك الانقسامات السياسية، الصراعات الطائفية، أو الأزمات الاقتصادية تُحول الجبهة الداخلية إلى بوابة مفتوحة للتدخلات الخارجية.
في الشرق الأوسط، تجلت هذه العلاقة في أمثلة واضحة.
على سبيل المثال، شهدت دول مثل العراق وسوريا خلال العقد الماضي اضطرابات داخلية حادة، شملت احتجاجات شعبية وصراعات مسلحة، مما جعلها أهدافًا سهلة لعمليات التجسس. في حالة لبنان، أدت الأزمة المتلاحقة إلى تفاقم الانقسامات السياسية، مما سهل اختراق أنظمة حساسة واستغلال السخط الشعبي من قِبل أطراف خارجية. مثل هذه الأمثلة - وغيرها كثير- تؤكد أن الضعف الداخلي يُسهل التجسس التكنولوجي ويزيد من مخاطر تجنيد أفراد محليين نتيجة الحاجة المادية أو الإحباط السياسي.
العبرة هنا واضحة: الاستثمار في التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي ضرورة استراتيجية لحماية الجبهة الداخلية والسيادة الوطنية.
القوى الكبرى صاحبة المصالح والمطامع الاقتصادية غالبًا تستغل الاضطرابات الشعبية في الشرق الأوسط لزعزعة استقرار الدول. الأنظمة التي تفتقر إلى شرعية شعبية واسعة أو تواجه احتجاجات مستمرة تجد نفسها في موقف ضعيف أمام التهديدات الخارجية.
على سبيل المثال، خلال الربيع العربي عام 2011، استغلت أطراف خارجية الاحتجاجات في عدد من الدول لتعزيز نفوذها، سواء عبر دعم فصائل معارضة أو تنفيذ عمليات تجسس. هذا لا يعني أن الخلافات تشكل تهديدا بحد ذاتها، بل غياب قنوات حوار فعّالة بين الحكومات والشعوب يُحول السخط الشعبي إلى أداة للتدخل الخارجي. في المقابل، الدول التي نجحت في إدارة الاختلافات والخلافات بصبر وبحكمة عبر فتح قنوات للحوار خلال الاحتجاجات الشعبية، تمكنت من تقليل هذه المخاطر.
وهنا يحضر أهمية وحيوية النموذج الخليجي. تَقدم دول الخليج العربي واستقرارها يعد نموذجًا بارزًا لتعزيز الجبهة الداخلية. من خلال التركيز على التنمية المستدامة نجحت هذه الدول في بناء شراكة قوية بين الحكومات والمواطنين. على سبيل المثال، أطلقت المملكة العربية السعودية رؤية 2030 التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد وأخذ الدولة والمجتمع إلى حقبة نوعية جديدة تبني فوق المكتسبات السابقة. مشروع البناء المستمر يعزز الثقة المتبادلة ويعمق الاستقرار الاجتماعي. كذلك، أنشأت الإمارات قنوات مثل «مجالس الإمارات» للتواصل المباشر مع المواطنين، مما قلل من الفجوات الاجتماعية، وهناك أمثلة أخرى عديدة في بقية دول المجلس.
علاوة على ذلك، ساهم تكامل دول الخليج تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي في توحيد المواقف أمام التحديات الوجودية.
على سبيل المثال، نتذكر الآن كيف نجحت هذه الدول في مواجهة الأحداث الكبرى مثل الحرب الإيرانية العراقية، أو احتلال الكويت، وحديثا مواجهة تقلبات أسعار النفط الحادة عام 2020 من خلال سياسات اقتصادية منسقة، مما عكس قوة بنيتها الداخلية. هذا النهج المتوازن، الذي يجمع بين الانفتاح على الإصلاح وأهمية الحفاظ على الاستقرار، قلل من فرص استغلال أي فجوات داخلية. في العصر الرقمي، يبرز الأمن السيبراني كساحة معركة حاسمة. الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية الحيوية، مثل محطات الطاقة أو الأنظمة المصرفية، أصبحت تحت تهديدات متزايدة. الدول التي تعاني من ضعف داخلي تكون أكثر عرضة لهذه الهجمات، ليس فقط بسبب نقص الموارد التقنية، بل أيضًا بسبب إمكانية استغلال أفراد داخليين. على سبيل المثال، كشفت هجمات سيبرانية على مؤسسات حكومية في بعض دول الشرق الأوسط خلال 2023 عن فجوات في الحماية، حيث استُهدفت أنظمة حساسة بسبب تسرب معلومات من الداخل.
ومثل هذه التسريبات ينبغي أن تضعها الحكومات الخليجية في أولويات تحليل المخاطر على الأمن الوطني. فهذا يُبرز الحاجة إلى وجود استراتيجيات دفاعية شاملة في مجال الأمن السيبراني تشمل تطوير الكوادر التقنية الوطنية وتقييد استخدام عمليات (الإسناد الخارجي) لخدمات المعلومات والاتصالات خارج المنطقة، بالذات قواعد البيانات الحكومية الأساسية. مع ضرورة الاستمرار في تطوير المنظمات الأهلية المتخصصة بتعزيز الثقافة والوعي الأمني الوطني، ولا يقتصر الاختراق الخارجي على التجسس الإلكتروني، بل يشمل التجسس الاقتصادي، وهذا يسهل الابتزاز والتهديد بالعقوبات وزعزعة الاستقرار المالي.
على الرغم من نجاحات دول الخليج، إلا أن التحديات مستمرة، وحتى الآن أصبحت الهجمات الإعلامية والسيبرانية ممنهجة وتستهدف دول وشعوب الخليج العربي نتيجة تفوقها الإقليمي. فحملات التضليل التي تستهدف السعودية والإمارات مستمرة لتشويه نجاحاتهما الاقتصادية.
هذه الملاحظات تُبرز أهمية اليقظة المستمرة الصامدة المتجددة في أدوات التحليل والقياس للمخاطر، سواء في مواجهة الحملات الإعلامية أو الهجمات السيبرانية. النجاح عادة يولد ويستجلب الأعداء ويوجد التحديات، وهذا يتطلب بناء استراتيجيات استباقية تشمل تعزيز الأمن السيبراني، وحوكمة البيئة الإعلامية والثقافية، فهذه قد لا تسلم الاختراق للحرب على الهويات الوطنية.
لذا، وفي ظل التحولات المعقدة التي يشهدها الشرق الأوسط، يبقى التماسك الداخلي الدرع الأقوى ضد التدخلات الخارجية. الدول التي تستثمر في بناء جبهة داخلية متينة، من خلال استمرار الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وإدارة الاختلافات بحكمة، وتعزيز الاستقلال الاقتصادي، تكون الأقدر على مواجهة التحديات، سواء كانت تجسسًا، أو هجمات سيبرانية، أو ضغوطًا اقتصادية. إن بناء جسور الثقة بين الحكومات والشعوب ليس خيارًا سياسيا، بل (استراتيجية وجودية) تحمي السيادة الوطنية.
باختصار، لا خوف من التجسس بكل أشكاله في أي دولة تثق في جبهتها الداخلية وفي شعبها. وحتى الأفراد، من يستقيم دينيا وخلقيا، فلا خوف، يقول المثل: (لا تبوق، ولا تخاف).