د. محمد بن أحمد غروي
تُعد منطقة جنوب شرق آسيا من أكثر المناطق عرضة للكوارث المناخية في العالم، وفقًا لمؤشر المخاطر العالمي والتقارير الإقليمية الصادرة عن منظمات آسيوية معنية بالمناخ، ويُتوقّع أن تتعرض لما يزيد عن 700 كارثة طبيعية خلال العقود المقبلة، وتشمل هذه التهديدات موجات حر شديدة، وفيضانات مدمرة، وانهيارات أرضية، وتراجع إنتاجية الزراعة نتيجة لتغير أنماط الأمطار وارتفاع درجات الحرارة.
في هذا السياق، تبرز التقنيات الحديثة، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، كأداة حيوية في معركة المنطقة مع التغير المناخي، وأوضح مكتب الأمم المتحدة للتغير المناخي، أن النماذج المدعومة بالذكاء الاصطناعي تقدم حلولًا متعددة، من بينها أنظمة الإنذار المبكر، وتحليل البيانات المناخية الضخمة للتنبؤ بالكوارث، وتصميم سياسات بيئية أكثر دقة وفعالية.
أصبحت منطقة جنوب شرق آسيا مركزًا صاعدًا لاستثمارات الذكاء الاصطناعي، وبحسب تقديرات حديثة، يُتوقع أن يبلغ حجم سوق الذكاء الاصطناعي في المنطقة 8.9 مليار دولار خلال عام 2025، بمعدل نمو سنوي يتجاوز 27 %، فيما شهد النصف الأول من عام 2024 وحده استثمارات في هذا القطاع تجاوزت 30 مليار دولار أمريكي. هذه الاستثمارات لم تأتِ من فراغ؛ فقد بادرت شركات تقنية عالمية إلى تعزيز حضورها في المنطقة، فعلى سبيل المثال: استثمرت أبل نحو 250 مليون دولار في توسعة مقرها في سنغافورة، فيما أعلنت غوغل عن استثمار ملياري دولار في أول مركز بيانات ومنطقة «Google Cloud» في ماليزيا.
ومن المهم استعراض توظيف دول الآسيان للذكاء الاصطناعي في عدد من المبادرات الرائدة، من أبرزها: الفلبين، التي تعتمد على نماذج AI دقيقة للتنبؤ بالطقس على مستوى الأحياء، مما حسّن دقة التوقعات عشرة أضعاف، وتستخدم تايلاند نظام «Nowcast AI» للتنبؤ بهطول الأمطار في بانكوك قبل ثلاث ساعات من وقوعها، ما يسمح بتحضير مبكر للفيضانات، أما إندونيسيا، فتراقب جاكرتا جودة الهواء باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحسين البيئة الحضرية وتقليل المخاطر الصحية، وفي سنغافورة، يمتد استخدام الذكاء الاصطناعي إلى إدارة حركة المرور، وساهمت خوارزميات التنبؤ في تقليص زمن التنقل بنسبة 22 %، ما أدى إلى تقليل الانبعاثات. كما تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة النفايات وزيادة معدلات إعادة التدوير. من الأمثلة البارزة على التكامل بين الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة، مشروع «المراقبة العالمية للطاقة المتجددة»، الذي يستخدم صور الأقمار الصناعية وخوارزميات التعلم الآلي لرسم خريطة شاملة لمواقع منشآت الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مما يعزز من قدرة الحكومات والمؤسسات على تقييم التحول للطاقة النظيفة، وكذلك تقدم أدوات مثل FloodHub من Google إنذارات مبكرة للفيضانات، في حين يساعد نموذج IceNet على تتبع تغيرات الجليد البحري، ما يمكّن المجتمعات من التعامل بفعالية مع التغيرات البيئية المفاجئة.
أما في ماليزيا، فقد حصلت على تمويل لتشييد مراكز بيانات تعمل بالطاقة المتجددة، ضمن توجه عام لتعزيز الاستدامة الرقمية، فيما أطلقت سنغافورة خارطة طريق جديدة في مايو 2024 لإضافة 300 ميغاواط من الطاقة الخضراء في مراكز البيانات، باستخدام تقنيات موفرة للطاقة، وفي تايلاند، طورت بانكوك نظام رقابة بالذكاء الاصطناعي لمصانع البتروكيماويات، أدى إلى تقليص استهلاك الطاقة وخفض انبعاثات الكربون بأكثر من 1600 طن سنويًا، أي ما يعادل زراعة 160 ألف شجرة. هذا الابتكار لم يتطلب تحديثًا للمعدات، بل اعتمد على تحسين الإدارة والتشغيل عبر الذكاء الاصطناعي، ويمكن القول: إن هذه المشاريع مجتمعة تعكس توجهًا إقليميًا واضحًا لدمج الذكاء الاصطناعي بالتحول الأخضر، بما يعزز من مرونة المجتمعات الآسيوية في مواجهة تداعيات التغير المناخي.
يمثل الاتجاه المتنامي نحو تبني الذكاء الاصطناعي الأخضر في الآسيان فرصة لتثبيت مكانة المنطقة كمختبر عالمي للابتكار المناخي. فالشركات، والمؤسسات، وبات صُنّاع السياسات في هذه الدول يدركون أن تحقيق الحياد الكربوني لا يعتمد فقط على التمويل أو الالتزامات الدولية، بل على تسخير الأدوات التقنية المتقدمة في إدارة الطاقة، والتخطيط العمراني، والاستجابة للأزمات.
ختامًا، فإن تجربة دول الآسيان في دمج الذكاء الاصطناعي في استراتيجيات التكيف المناخي تقدم نموذجًا عالميًا قابلًا للتكرار، وتمنح المملكة العربية السعودية والدول الخليجية رؤى يمكن البناء عليها في تطوير سياساتها البيئية ضمن رؤية 2030، خاصة في ظل التحديات المناخية المشتركة في النطاق الجغرافي الآسيوي.